فاطمة الزين هاشم
كم اشتقت إليك يا أمّي وأنت فـي سباتك الأبدي، كم تمنيت أن أقدّم لك ورداً يشبهك، وفـي إضمامته عطر ياسمين كعطرك، وريحاناً فوّاحاً كأنفاسك، وجوريّاً أخذ حمرته من وجنتيك، وكم أنا مشتاقة لفنجان القهوة بقربك تحت العريشة التي كنا نجلس فـي ظلها سويّة، وأنت تطوّقينها بحنانك وتغمرينها بالرعاية بيد وفـي يدك الأخرى عناقيد العنب وحبّات الكرز، تقطفـينها من تلك الأشجار التي اعتنيت بها كاعتنائك بنا، حتّى أصبحت جزءاً منّا ومنك، وحتّى العصافـير التي كانت تزقزق بين أغصانها تغذّت منها، وأسمعتنا البلابل المحتشدة جنبها تغريداتها كعزف منفرد، رفعت أصواتها إلى السماء وشكرتك مثلنا.
أمّا الورود التي زرعتها فـي (أحواض) الدار فقد حزنت واندثرت بعد رحيلك مثلما فضّلت الرحيل وراءك، لأنّها لم تُرو إلّا على يديك، وكأنّما كانت لا تريد أن ترى وجهاً غير وجهك المنوّر الذي يمنحها الإشراقة والحيويّة، فلا جمال للحياة بدونك أيّتها الحبيبة.
أمّي.. كم أنا مشتاقة لثغرك البسّام وحضورك الأخّاذ ونفسك النقيّة وقلبك الطيّب الذي لا يحمل إلّا المودّة والحبّ والحنان، أنظر من مرآب السنين التي فصلت بيننا وحالت دون لقائنا، من وراء المواجع والغصّات واللهفات المتواترة إلى اللقاء المستحيل، أراك فـي كلّ زاوية وركن من بيتنا، وتحت كلّ شجرة قطفت ثمارها بيديك وسقيتها من مهجتك حتّى أنبتت شجيرات خُضراً تشبه عطاءك، ومثلما غرست تلك الشجيرات غرست بنا روح المحبّة والانتماء ومبدأ مساعدة الغير وعمل الخير.
رحلت باكراً وكنّا بأمسّ الحاجة إليك، وقد كسر قلبك وأضناك موت أخي الحبيب وهو فـي ريعان الشباب، فهل رفضت الحياة بدونه وصمّمت على اللحاق به سريعاً دون أن تمنحينا الفرصة لنشفى من حزن الفقدان الأوّل لنعاني من فقدانك الأصعب؟ لم أعهد بك القسوة حيث لم تنخفض حرارة عواطفك تجاهنا يوماً بل على العكس كنت الينبوع الذي ننهل منه الحبّ والحنان، وكنت الدواء الذي يشفـينا إذا مرضنا كما كنت المنارة أمامنا فـي الظلمات ومفرّجة همومنا عند المصاعب، لكنّ الله لا يترك عبده إذا دعاه، فقد هيّأ لنا والداً حنوناً متفانياً حاول بكل طاقاته أن يعوّضنا عن غيابك على قدر استطاعته، وكم حاول جاهداً أن يملأ الفراغ الذي تركته، فحرم نفسه من متعة الحياة برفضه الزواج بعدك وفاءً لك وحفاظاً علينا من تسلّط امرأة أخرى قد لا تحبّنا أو تتسبّب فـي تعاستنا وتهدّم حياتنا.
نحن كأسرة لم ننسَ ما فعله من أجلنا، فكنّا أوفـياء له فـي كبره، وحافظنا على وجوده المعزّز المكرّم بيننا، وحاولنا جاهدين إسعاده كما أسعدنا، حتّى رحل وهو راضٍ عنّا جميعاً، معتزّاً بنا داعياً لنا ولأولادنا بالخير، وفـي غمرة رحيله شعرت بفراغ داهم قلبي وجرح أضنى فؤادي وحزن أدمى مهجتي، وأعاد إليَّ ذكرى فقدانك.
إنّ فقدان الأم له من المرارة طعم حادّ آخر، فهي تحمل جنينها فـي بطنها لتبدأ العلاقة الوجدانيّة بينها وبين طفلها المنتظَر خلال الأشهر التسعة للحمل، حيث يصبح بيت رحمها جنّته، بما يوفّر له من وضع إنسانيّ خلّاق يتّصف بالروعة والجمال والسكينة، فالجنين يسمع وهو داخل الرحم مختلف أنواع الضجّة فـيسكن إلى نبضات قلبها وصوتها فـي علاقة متبادلة بين المتلقّي ومانحة السكون والطمأنينة، حتّى إذا غادر ذلك البيت الآمن راح يتغذّى من لبنها بعد معاناة المخاض وإجهاد ومشاقّ الولادة، وتبقى ملازمة له مقرنة ذلك بالدعاء المتواصل له بالحفظ والسلامة مدى الحياة، وحتّى حين يكبر ويتزوّج لا تتخلّى عنه وكثيراً ما تربّي الأحفاد بكلّ رحابة صدرٍ وسرور.
بعد كلّ هذه المتاعب والعطاء المستمر، ألا تستحقّ الأمّ التقدير والاعتناء بها، وردّ الجميل؟ أليس من حقّها علينا أن نرعاها فـي كبرها كما رعتنا فـي صغرنا؟ هل من الشهامة والوفاء أن نرميها فـي دار المسنّين ونهملها وننسى ما قدّمته لنا من تضحيات؟ ألا نتوقّع أن يفعل أولادنا بنا نفس الفعل السلبيّ لنلقى نفس المصير القاتم؟
لقد رأيت فـي إحدى دور المسنّين كهولاً من نساء ورجال تخلّى عنهم أبناؤهم وتركوهم يصارعون العزلة والإهمال والوحدة والوحشة القاسية، فأين ضمير الإنسان لدى الأبناء؟ ألم يوصِ القرآن بالوالدَين حيث قال: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً». (سورة الإسراء 23). كما أكّد بنفس السورة «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا» (24).
ارجعوا إلى ضمائركم واحتضنوا أهلكم كما احتضنوكم فـي الصغر، وارحموا من فـي الأرض يرحمكم من فـي السماء.
وكل عام وأنتم أوفـياء لأمّهاتكم..
Leave a Reply