تسببت الاستقالة المفاجئة لرئيس الحكومة سعد الحريري من العاصمة السعودية، الرياض –قبل نحو أسبوعين– بإدخال لبنان في منعطف سياسي حاد، وأحدثت قلقاً وإرباكاً في الأوساط الشعبية والسياسية اللبنانية التي سرعان ما نجحت في استيعاب الصدمة، وسحب البساط من تحت أقدام الدبلوماسية السعودية الطامحة إلى تصفية الحسابات بينها وبين إيران عبر البوابة اللبنانية.
التعاطي السياسي الهادئ مع استقالة الحريري في بيروت، جنّب البلاد خطر التجاذبات الطائفية الحادة، والخضات السياسية المترتبة عليها، التي شكلت أحد أهم سمات بلد الأرز منذ استقلاله في 1943. كما نجح في إعادة الكرة إلى مرمى السعوديين المتلهفين لإعادة ترتيب البيت الداخلي وتأمين وصول ولي العهد محمد بن سلمان إلى العرش، بأسرع ما يمكن، وتحت العنوان الأكثر جاذبية، ألا وهو «محاربة الفساد». ولكن اللبنانيين استطاعوا –وبأداء لافت هذه المرة– أن يصرخوا في وجه وريث العرش السعودي: «على من تقرأ مزاميرك.. يا داود!».
لقد أصبح واضحاً أنه كان يُراد لاستقالة رئيس الحكومة اللبنانية أن تغطي على اعتقالات الأمراء ورجال الأعمال السعوديين، وعلى فشل المملكة بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان في تحقيق أهداف «عاصفة الحزم» التي حولها اليمينون إلى «عاصفة وهم» من خلال الرسائل الصاروخية العابرة للحدود، والتي كان آخرها صاروخ باليستي استهدف مطار الملك خالد في الرياض، بعد ساعات من افتعال الأزمة اللبنانية التي كان يؤمل منها أن تكون حرباً على إيران و«حزب الله».
إن الفشل المتكرر لولي العهد السعودي وإخفاقاته المتلاحقة خلال الأعوام الماضية، وفي عديد الملفات الداخلية والخارجية، قد دفعته إلى اتخاذ خطوات هيستيرية، بدأت بإزاحة ابن عمه ولي العهد السابق محمد بن نايف، والتصعيد ضد قطر ومحاصرتها، واعتقال العديد من الأمراء ورجال الأعمال من ذوي المناصب الحساسة في المملكة، واحتجازه لرئيس الحكومة اللبناني وإجباره على تقديم استقالته، وهذه الإخفاقات لم تكن أكثر من كناية عن التخبط الهيستيري الذي يتميز به العهد المنتظر لمحمد بن سلمان، الذي بات يوصف في الكثير من الأوساط السياسية والدبلوماسية حول العالم بـ«الأمير الطائش»!
والتخبط السعودي لم يقتصر على ترتيبات تعبيد الطريق نحو العرش، فالخلل الداخلي الذي يأتي متزامناً مع أزمات اقتصادية ومالية متلاحقة، وخاصة في ظل الشكوك التي تحيط ببرنامج ابن سلمان للإصلاح الاقتصادي، والمعروف باسم «رؤية 2030» يجعل الجبهة الداخلية للمملكة أكثر هشاشة وأكثر عرضة لفتح جبهات خارجية، وهو ما تبدى على امتداد رقعة الصراع بين الرياض وطهران، ابتداء من اليمن وسوريا وصولاً إلى لبنان، ما يثير قلقاً إضافياً من أن هيستيريا الأمير المعتطش للسلطة قد تشعل الشرق الأوسط برمته، وهو ما لا يمكن لأية جهة دولية مؤثرة حليفة للسعودية أن تتحمله، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية.
في الأثناء، تضاف هزيمة السعودية في لبنان إلى قائمة هزائمها المنكرة في اليمن وسوريا، وذلك على خلفية نجاح القوى والمؤسسات لسياسية اللبنانية، وفي مقدمتها رئيس الجمهورية ميشال عون الذي أدلى –الأربعاء الماضي– بتصريح هو الأقوى منذ بداية الأزمة الدبلوماسية متهماً السعودية بالاعتداء على لبنان واستقلاله وكرامته، وبمخالفة اتفاقية فيينا لحماية الدبلوماسيين.
عون شدد أيضاً على أن الحريري وأفراد عائلته محتجزون في الرياض، وطالب بالسماح لهم بالعودة إلى لبنان، لتزداد بذلك وتيرة الضغوط على الرياض التي ما فتئت تنكر احتجازها لرئيس الحكومة اللبنانية، رغم أنها انصاعت أخيراً للمبادرة الفرنسية التي تقتضي باستضافة باريس للحريري قبل عودته لبيروت، يوم الأحد المقبل، كما تؤكد معظم التقارير الإخبارية.
لقد اضطرت الرياض مرغمة لقبول المبادرة الفرنسية لحفظ ماء وجهها، بعدما أثيرت فكرة نقل ملف الاستقالة اللبنانية إلى مجلس الأمن، فتولت باريس –ما يدعوه البعض– «سيناريو النزول عن الشجرة»، خاصة وأنه لم يكن في حسبان المملكة أن بقاء الحريري على أراضيها سيفاقم أسئلة كان يُظن بأنها ستمر مرور الكرام، وأن تبريرات الاستقالة سوف تنطلي على الجميع.
وفيما كانت بعض الأوساط –داخل السعودية وخارجها– تعتقد أن ابن سلمان قد ينجح بفتح صفحة جديدة في تاريخ المملكة ويمهد لإقامة «المملكة السعودية الرابعة»، بات واضحاً أنه يقود بلاد الحرمين من هاوية إلى أخرى، معززاً نفور الجماهير العربية من المملكة التي باتت تطمح لتولي زعامة العالم العربي، بعدما دخلت العواصم العربية الأساسية، القاهرة وبغداد ودمشق، في أتون مشاكلها الخاصة والمعقدة.
وفي سياق مواز، قد لا تنتهي محنة الحريري بذهابه إلى باريس، ومنها إلى بيروت لتقديم استقالته كما تشير أغلب التوقعات، لاسيما وأن بعض التقارير تتحدث عن أنه ربما يكون «صندوقاً أسود» في عملية انتقال السلطة في السعودية التي يحمل جنسيتها إلى جانب الجنسية الفرنسية. أما وقد أثبتت الأيام الأخيرة، أن اللبنانيين، من مختلف الشرائح والتحزبات والطوائف– قد شكلوا صمام أمان لحمايته وإنقاذه من غطرسة السعوديين ومحاولتهم إذلاله، فقد آن الأوان لزعيم تيار المستقبل الذي رفع شعار «لبنان أولاً» أن يثبت أن لبنانيته تأتي في المقام الأول والأخير، وعليه –ربما– أن يتخلى عن الجنسية السعودية، (كذلك عن الجنسية الفرنسية) ليرد الجميل للبنانيين الذين ساندوه في محنته، وليثبت لهم أنه أولاً ونهائياً.. لبناني!
Leave a Reply