لم يفكر رفيق الحريري يوماً، أن يكوّن زعامة سياسية، وأن يصبح له وريث سياسي، على طريقة “البيوتات السياسية” اللبنانية التقليدية، هذا ما كان يفصح عنه دائماً، ويقول إنه لم يطلب من أولاده أن يمارسوا السياسة أو أن يمتهنوها، وهو سعى إلى إبعادهم عنها، عندما كان رئيساً للحكومة أو في المعارضة، وتركهم ينصرفون إلى أعمالهم لمن أنهى دراسته، ووزع عليهم المسؤوليات المتعلقة بمشاريعه، ولم يفسح لهم المجال لمشاركته أعمال السياسة، فلم يظهر أي من أنجاله في استقبال سياسي أو في زيارات رسمية معه لدول سوى زوجته نازك التي يفرض البروتوكول، وجودها معه.
فالحريري الأب، لم يعمل في السياسة، وفي سيرته قليل من النشاط الحزبي منذ نهاية الخمسينات إلى منتصف الستينات من القرن الماضي، لم يكن خلاله بموقع المسؤولية في “حركة القوميين العرب” التي انتمى إليها والبعض يقول تقرب منها، بفضل أحد أصدقائه الذي أصبح مسؤولاً في منظمة العمل الشيوعي في صيدا والجنوب عدنان الزيباوي، وقد ترك الحريري العمل الحزبي، عندما سافر إلى السعودية ليعمل في إحدى الشركات كـ”مدقق حسابات” قادماً من قسم المحاسبة في مجلة “الحرية” بعد أن بدأ الدراسة في التجارة في جامعة بيروت العربية وتركها لأسباب مادية وسعياً وراء رزقه في المملكة.
والدخول إلى السياسة، كان من باب الإنماء والأعمار، وإقامة مؤسسات تربوية وصحية، وتقديم منح دراسية، وقد برز اسم رفيق الحريري، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وإرساله معدات من شركة “أوجيه لبنان” لرفع الدمار والخراب الذي خلّفه العدوان والاحتلال الإسرائيلي، وفتح الطرقات وتقدم بمشروع إعادة بناء الوسط التجاري، قبل أن يتملكه قانوناً عبر شركة “سوليدير” إثر اتفاق الطائف.
وعُرف الحريري أنه رجل محسن، بعد أن امتلك المال، وبدأ يظهر كوسيط سياسي من خلال تكليفه في مرحلة الإعداد لمؤتمري لوزان وجنيف للحوار مع بداية عهد الرئيس أمين الجميل، وكان يرافق الأمير بندر بن سلطان أو أي مسؤول سعودي في زياراته إلى لبنان وسوريا، للتوسط بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، في فترة أعوام الثمانينات من القرن الماضي، وكان من عرّابي اتفاق الطائف، الذي أرسى الإصلاحات السياسية، وأدخل لبنان في السلم الأهلي، وكان يريد لجهده أن يستثمره من خلال وصوله إلى السلطة، وترؤسه الحكومة في لبنان، وهو لم يوفر كل السبل للوصول إلى هدفه، مقترباً ومتودداً لمسؤولين سوريين، ومستنداً إلى دعم العاهل السعودي آنذاك الملك فهد، ثم نسج علاقات دولية وتحديداً أميركية وفرنسية.
بدأ الحريري رجل أعمار في لبنان، وصاحب يد بيضاء في المساعدات الإنسانية، وتحوّل إلى أن يكون له مشروع سياسي، فكان دائم السعي لأن يصل صديقه جوني عبده إلى رئاسة الجمهورية، وهو أفصح عن ذلك في آخر عهد الرئيس أمين الجميّل لكنه لم يتمكن بسبب الرفض السوري، مما تركه يتحين الفرص من أجل أن يدخل هو إلى جنة الحكم، بعد اتفاق الطائف، ولما لم يحصل على مبتغاه، تمكن مع مجموعة من أصدقائه السوريين في مراكز القرار وهم عبد الحليم خدام، وحكمت الشهابي وغازي كنعان، من أن يوصلوه الى رئاسة الحكومة، بعد أن تمّ إغراق لبنان في لعبة ارتفاع سعر الدولار، وتضخم الأسعار، وتدني الرواتب والأجور، فبات التفتيش عن منقذ، فكان اختيار الحريري الذي ارتبط اسمه بالاستقرار النقدي وإعادة الأعمار، لكن الكلفة كانت عالية، وهي ارتفاع الدين وخدمته إلى حوالي 60 مليار دولار، دون تحقيق إنجازات كبيرة في البنى التحتية التي تبين أن كلفتها لم تصل إلى أكثر من خمسة مليارات دولار.
فطيلة فترة حكمه وحتى اغتياله، لم يكن الحريري سوى رجل أعمال وصل إلى السلطة ودخل السياسة من باب المال والمساعدات، وهو الأمر الذي لم يشجعه على بناء “تيار سياسي” أو تقديم نفسه كزعيم سياسي، بالرغم من أنه أقفل بيوتاً سياسية في طائفته، واحتكر تمثيلها بسبب لعبة المال والسلطة، وهو ما يؤكده رؤساء حكومات سابقين مثل الرئيسين سليم الحص وعمر كرامي، اللذين يؤكّدان على أن الحريري وغيره من أصحاب المال تسللوا إلى السياسة واجتاحوها، وفي ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية سيئة، وحالات فقر وجوع تركت المواطنين يرتمون في أحضان مَن أفقرهم من الرأسماليين ومن هم في موقع النفوذ والقرار السياسي.
اغتيل الحريري، وعلى الطريقة العشائرية اللبنانية، ألبست العباءة إلى أكبر أنجاله بهاء، كوريث سياسي ولكن في لحظة سياسية، انقلب المشهد وحصلت تدخلات خارجية، وجاءت الأوامر الملكية من السعودية والأخرى من مراكز القرار في واشنطن وباريس، أنّ من سيكون وريثاً سياسياً هو سعد وليس بهاء، الذي عليه أن ينصرف إلى متابعة أعماله، كما ان أيا من أنجال السيدة نازك ليس مؤهلاً لمهام سياسية، وأن العمة النائب بهية لا يمكن أن تنتقل إليها الوراثة السياسية، التي ستؤول حكماً إلى نجليها فيما بعد أحمد ونادر، وهما الآن منخرطان في العمل السياسي ولهما كلمتهما، في حين أن أولاد خالهما ليس خارج العمل السياسي فقط بل خارج لبنان، وقد انقطعوا عنه، حتى في المناسبات المتعلقة باغتيال والدهم، أو مناسبات أخرى، وقد تركوا لسعد أن “يقلع شوكه بيديه” وهم قاسموه مؤخراً الميراث لجهة فصل ما هو سياسي وإعلامي عن الثروة، وأن يتحمل أعباء المال السياسي وحيداً.
لم يتسلم سعد مباشرة الوراثة السياسية، واشترط عليه من أوصله أن يخضع لفترة اختبار وامتحان تمتد من الانتخابات النيابية 2005 إلى الانتخابات النيابية 2009، حيث يتسلم فؤاد السنيورة الدفة، بعد أن تمّ إبعاد بهيج طبارة كمؤهل أن يكون هو من يتبوأ رئاسة الحكومة خلفاً للحريري، لما يتمتع به من خبرة وأخلاق سياسية ومواقف وطنية، ويحفظ الإرث السياسي للشهيد الذي كان يثق بطبارة كثيراً، كما السيدة نازك، وهو له احترام مميّز عند آل الحريري، كما لدى الفريق الذي كان يعمل مع الحريري الأب، لكن السياسة أبعدت طبارة وأتت بالسنيورة لتنفيذ مشروع “الشرق الأوسط الجديد أو الكبير” للرئيس الأميركي جورج بوش، الذي ارتاح للتعامل مع السنيورة المعروفة سيرته السياسية عند الإدارة الأميركية، كما روى فيما بعد الوزير محسن دلول، فكان وصول السنيورة إلى رئاسة الحكومة، على أن يخضع سعد الحريري إلى تأهيل، وبدأ عبوره إلى السياسة من البيت الأبيض فزاره مع الأمير بندر والتقى هناك نائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني رئيس فريق “المحافظون الجدد”، وصاحب مشروع احتلال العراق وتغيير النظام في سوريا والقضاء على المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، وحماية أمن إسرائيل، وهو من خطط وطالب بالعدوان الاسرائيلي على لبنان صيف 2006.
بدأت مسيرة الحريري الابن السياسية من البيت الأبيض في زيارة تعارف، دون أن تمر بقصر الإليزيه في باريس، لأنه كان مطمئناً أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك كان آنذاك يحتضن عائلة الشهيد ويقدم لها ما تطلب، من إيواء شاهد زور كمحمد زهير الصديق، وتنفيذ القرار 1559، وتقديم قرارات إلى مجلس الأمن الدولي ضد سوريا، وإنشاء المحكمة الدولية بالاتفاق مع الرئيس بوش.
فخلال السنوات الأربع، كان الحريري الابن، يخوض غمار السياسة، ويذهب مع وفد أمني مخابراتي سعودي إلى باكستان ويظهر معه في الصورة لحل قضية تتعلق ببرويز مشرف، كما كان كثير الزيارات إلى مصر للالتقاء برئيسها حسني مبارك، ومد خطوط اتصال مع السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس إلى التنسيق الدائم مع النظام الأردني ووضع نفسه في محور ما سمي “عرب الاعتلال” في مواجهة سوريا كدولة دائمة وحاضنة للمقاومة التي ابتعد عنها، لا بل رسّخ تحالفه مع القوى اللبنانية الداخلية في قوى “14 آذار”، التي ترفض وجود المقاومة وتدعو إلى نزع سلاحها، فكان معجباً بطروحات الوزير الراحل بيار الجميل وأصبح صديقاً لسمير جعجع، ورفع شعار “لبنان أولا” وهو ما نظر إليه النائب وليد جنبلاط لاحقاً، على أنه شعار انعزالي، يفك ارتباط لبنان بالمحيط العربي، وقضية فلسطين والصراع العربي-الإسرائيلي.
التزم الحريري فكراً سياسياً، يماهي ويقارب الفكر الانعزالي الكتائبي والقواتي، وبات جمهوره وتياره السياسي معاديين لكل ما هو مقاومة وعروبة واقترب من خط “السلام” الذي لا يقيم لحق العودة للفلسطينيين وزناً.
هذا التوجه السياسي للحريري، كان صعباً أن يبقى عليه بعد التحولات التي حصلت داخل لبنان، بتحقيق المعارضة لما تريد لجهة إسقاط مشروع “الشرق الأوسط” الأميركي، في عام 2008 بعد أن انهزمت إسرائيل في عدوان عام 2006، فكان لا بد من أن يدفع الثمن من ركب المشروع الأميركي الذي خرج منه جنبلاط، وحاول أن يُنزل منه حليفه الحريري الذي لم يجرؤ، إلا أنه حاول أن يقترب من سوريا بعد المصالحة التي حصلت بينها وبين السعودية، ولأنه شعر أنه لا يمكنه أن يكون رئيساً للحكومة بعد الانتخابات النيابية، إلا إذا حسّن علاقاته مع الرئيس السوري بشار الأسد الذي استقبله لفتح صفحة جديدة، على أن يقوم الحريري بنقد للمرحلة السابقة على أساس أنها كانت من صناعة أميركية وإسرائيلية في التجني على سوريا وحلفائها، وفي ضرب المقاومة، ومحاولة نزع سلاحها وإضعافها وتشويه صورتها بالسعي إلى استدراجها إلى الفتنة الداخلية.
استقبل الأسد الحريري، خمس مرات وكان يتودد إليه، ويقدم له كل الدعم، على أن يغيّر سلوكه السياسي، لكنه كان يعد ولا ينفذ، ولا يترجم أقواله إلى أفعال، كما جاء في حديثه “للشرق الأوسط” حول شهود الزور، الذي اعترف بوجودهم وإساءاتهم، لكنه لم يقبل أن يحاكمهم، لأنه يخشى انهيار منظومته السياسية والأمنية والقضائية والإعلامية، فتجمد عند حديثه الصحافي، كما تم تعليق علاقاته مع الرئيس الأسد الذي يؤكّد دائماً حرصه على الحريري أن يبقى رئيساً للحكومة، ولكنه سئم وعوده ويسأل الى متى الانتظار، لا سيما وأن ثمة مؤامرة دولية تحاك ضد المقاومة عبر المحكمة الدولية، والحريري يعرف ولا يتحرك لصدها، مما أدخله في دائرة الشك والريبة، إضافة إلى تردده وضعفه وهو ما فتح الباب لسؤال، هل من اختار الحريري وريثاً كان يعرف من يختار ليمرر عبره كما مع مَن سبقه السنيورة مشروع ضرب المقاومة وهذه المرة عبر المحكمة الدولية التي تصر عليها أميركا، لا لكشف مَن اغتال الحريري، بل لتصفية المقاومة وضمان أمن إسرائيل؟
Leave a Reply