قليلة جداً الأخبار السارة في هذا العالم، خاصة في هذه الأيام، الخبر الصغير الحميم، الكبير بمدلوله، وهو أن تصنف الحبيبة بيروت على أنها الوجهة السياحية الأولى في العام الحالي، هذا النبأ الذي أوردته صحيفة الـ”نيويورك تايمز” الأميركية إلى جانب إدراج الدليل السياحي العالمي بيروت كثالث وجهة سياحية من بين مدن العالم كان بمثابة البشرى السارة لكل محبي بيروت.
امتلأت غبطة وأنا أقرأ ذلك الخبر الذي يبدو أنه لم يمسني وحدي بعصاه السحرية، بل يبدو أنه لامس الكثير من المجانين في حب لبنان وبيروت من مغتربين ومقيمين. وتمنيت أن يتلو علينا هذا الخبر فعل الندامة على ما كان من قتل وتشريد وحروب بعدما أثبتت الأيام خطأ الاعتقاد بأن تحرير فلسطين يمر من بيروت، وأن يقتنع الجميع أن الرعونة والثورة غير المسؤولة يمكن استبدالها بمنطق آخر، كالحوار مثلاً. وأن الغطرسة والمتفجرات التي أبقت بيروت لسنين عديدة تئن تحت جرح نازف وحار، قد خلق مناخاً مريضاً وشبه مرعب في وطن أحببناه وطناً للحرية والثقافة، وطناً للعيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين في إطار مجتمع نموذجي جوهره الاغتناء بالتنوع وقبول الآخر واحترامه، وأن الحق في الاختلاف جوهر الديمقراطية.
تمنيت أن أسمع “شي خبرية” عن انحسار الفوضى الغابرة وقرع طبول الوغى التي تقرع الآن إكراماً لحروب انتخابية كالتي نشهد فصولها الهزلية هذه الأيام، والتي برأي الكثيرين هي حروب يجب محاربتها من الجميع في كل اللحظات التي يقول فيها اللبنانيون نريد أن ننسى ونمحو من الذاكرة ما حدث وجرى في هذه المدينة العائدة للحياة بشوق ولهفة، وأن لا تكون هذه الأيام مخيفة لنا، ليس بما فات بل بما هو آت، ولا نسمع بعودة “ذئاب التعصب وضباع الحسد” لتسيطر تحت غطاء الانتخابات النيابية، على مدينة بيروت. هذه “العصابة من الذئاب والضباع” التي خطفت “من بيروت” في السابق الجمال والرقي. هذه العصابة نفسها تنكرت لكل الأديان ودخلوا في “دين” طلب الثراء والسمسرة وجعلت من الوطن بلداً للأخذ والنهب والإذلال وللصعود على جثث وأشلاء المخلصين لتولي المناصب والمراكز وممارسة الاضطهاد المجاني -كما نراه الآن- للمواطن المسكين سواء المسافر أو المقيم اذا ثابرت الروح الميليشاوية في محاولة الاستمرار في الكبرياء والعظمة لخلق وطن “نُص كمّ” بـ”نُص بيروت”.
لقد حظيت بيروت دائماً بحب الناس من الشرق والغرب ويبقى أن تحظى بحب أبنائها، وبالذات السياسيين حتى لا يحولوا ساحاتها إلى ملاعب لصراعهم على المال والسلطة، ويدركوا مدى بشاعة الحرب وجمالية السلام والعمل عليه ومن أجله، هل ما زالت في أعينهم دموع التماسيح لتبكي زمن الميلشيات وإعلان فعل الندامة والتوبة بعدم الرجوع إليه؟ على الرغم من كل ما مرت به بيروت من أهوال، تظل بيروت راقية ومتحضرة، كطائر الفينيق، تنفض الرماد عن جدائلها وتغسل قدميها بمياه البحر وينبعث أريج المسك والعنبر من قبابها ومبانيها القديمة فينتشر عطراً بدل عطر البارود. لقد تم ترميم الخراب الحربي البيروتي بطريقة مدهشة، كم نتمنى أن يراه أولادنا الذين استقروا في الغربة، إذ قد تصدق عيونهم أن الحرب التي عاشوها صغاراً وهجروا لبنان بسببها، وكادوا يشككون في إمكان انتهاء فصولها قد توقفت. وإن بيروت التي كاد جيل سابق أن ينجح في تخريب سمعتها وجعلها وطن كل الذين فقدوا أو فقدتهم أوطانهم، هاهي تعود مدينة راقية للجمال والحياة وأن نحبها جميعاً حتى لا يكون لأحد القدرة على سرقة بيروت منا بعد اليوم. لبيروت أصلي أن لا تنتحب مرة أخرى عيناها الجميلتان على ركبة البحر طويلاً قبل أن تنام وتشكو له آثار الحروب وجحود زعمائها المصابين بكل أمراض ضيق الأفق والضحالة والانغلاق على الذات المتورمة المتعصبة للطائفة والحزب والزعيم.
أخيراً، ذلك الخبر السعيد عن بيروت جعلني أبكي. أبكي فرحاً وسعادة لأميرة المدن التي تغري السائح على السفر إليها، وبكيت أيضاً علينا نحن، نحن الذين فارقناها طويلاً، نحن الذين لا يدري المقيم فيها أية بهجة يدخلها على قلب الغريب والبعيد حين يسمع خبراً جميلاً وسعيداً عنها.
كل ما نملك يا بيروت هو أن نصلي لأجلك، ونقول لك: مبروك!
Leave a Reply