كان الحديث في الاسبوع قبل الماضي عن الاستبداد السياسي والكبت الفكري وقلنا أن ألمنهجين ينطلقان من مبدأ واحد هو الهيمنة والسيطرة على الناس وإخضاعهم تحت القرار الذي يرسمه السياسي المتسلط بدعوى أنه الأعرف بمصلحة قومه وشعبه ورعيته، وهو الأقدر على تشخيص مصالح بلاده ومجتمعه، أو كما يقول المثل الدارج: «الشيوخ أبخص»، ولكن الإستبداد السياسي ظاهر وواضح مهما حاول التخفي تحت أية مظلة وأي عنوان من الحكم فإن شعاراته سرعان ما تنكشف للناس، فتكون ردات الفعل بحسب وعي الناس وتماسكهم وأجتماعهم على هدف واحد هو مناهضة الظلم ومواجهة الإستبداد والإستعداد للتضحية، وترتفع قوة ردة الفعل عند الشعوب المنتهكة حقوقها بحسب حجم الفعل من الظلم والاستبداد ومصادرة حرية الناس، من هنا نعرف لماذا أنهارت قلاع الإنظمة الدكتاتورية في أوروبا الشرقية بعد أن أنكشف الغطاء عنهم من الإتحاد السوفيتي السابق، وأستمرت الأنظمة العربية مهيمنة على شعوبها عشرات السنين، وقد كان الأمر واضحاً عن مستوى التفاوت في الوعي السياسي بين تلك الشعوب والأخرى العربية.
ولكن الحديث عن الإستبداد الديني (والمقصود أشكال سلطة رجل الدين على الناس) سواء كانت بمفهومه الديني في مجال الإفتاء والمرجعية أو مجال الدعوة والإرشاد أو إدارة جهاز سياسي وأجتماعي، الحديث عن هذا النوع من الاستبداد خطير جداً وهو أخطر من الإستبداد السياسي.
الخطرالأول:
يقول الشيخ النائيني: والفرق بين الاستبداد السياسي، والاستبداد الديني، هو ان النوع الاول مبني على القهر، والغلبة، والثاني مبني على الخدعة والتدليس، فليس بالضرورة أن يكون متزعم هذا المنصب فاسق أو منافق أو مصلحي تلبس بلباس العلم! بل قد يريد الإخلاص لقضيته ودينه ومبادئه فيغلب عليه الشيطان ويصور له الباطل حقا، والحق باطل فيصم إذنيه عن سماع آراء الاخرين فيكون صيداً ثميناً للشيطان فيزين له عمله بزينة الشرع والقداسة، يقول سبحانه }الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا{، وقد ضرب لنا الخالق سبحانه اروع مثال على أحد علماء بني أسرائل في عهد النبي موسى عليه السلام الذي وصل درجة من العلم كان يعرف من آيات الله ما يشفي المرضى ويعمل المعاجز حتى أعجب أهل زمانه فداخله الحسد والغرور وقال عنه الخالق سبحانه: }وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176){، فسّخر هذا الرجل علمه لهواه ومصالحه فبدل إن يقف مع أهل الصلاح ومن يريدون الخير للناس ذهب بعلمه بعيداً ضد النبي موسى عليه السلام.
الخطر الثاني:
صعوبة الرد على رجل الدين، كونه يتحصن بأهم رداء وهو رداء الشرع، وقوله حجة وقراره نافذ على الناس لكنه أمام الحاكم والسلطان الذي لا يفقه من الشرع شيئاً، فهو مأمور وحاله ينطبق على المؤسسة الدينية التي توفر له الحماية. أما الناس فإنهم لا يستطيعون الوقوف أمام رجل الدين. خوفاً من ضياع السمعة في الدنيا، وتخويفاً من غضب الله والدخول في النار والعياذ بالله في الآخرة، .. فالراد على رجل الدين كالراد على النبي (ص)، والراد على النبي كالراد على الله تعالى .. فليتبوء مقعده من النار، والقصص كثيرة مع بعض الذين حاولوا مناقشة بعض رجال الدين أو حوارهم أو رد عليهم ، فأقل ما يناله إصدار فتوى تخرجه من الدين أو إصدار حكم شرعي بالتعزير, فالحصانة التي يتمتع بها بعض رجال الدين تتجاوز الحصانة الدبلوماسية، فيحق لرجل الدين أن يصعد منبر الدين ويخاطب الناس بما يحلو له أو يسطر العبارات، ربما يملىء المجلدات بفهمه للدين أو يقرر أن يبني دولة الشرع ودولة الاسلام ودولة الصحابة، لكن لا يسمح لاحد أن يخاطبه إلا بلسان يتناسب مع مقامه وقداسته، يقول الإمام علي (ع) في نهج البلاغة: «فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تحتفظوا مني بما يتحفظ به عند اهل البادرة – أي الغضب – ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس اعظام لنفس، فانه من استثقل الحق ان يقال له او العدل ان يعرض عليه كان العمل بهما عليه اثقل. فلا تكفوا عن مقالة بحق او مشورة بعدل فاني لست بفوق ان اخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي الا ان يكفي الله من نفسي ما هو املك به مني، فانما انا وانتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره يملك منا ما لا نملك من انفسنا، واخرجنا مما كنا فيه الى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى واعطانا البصيرة بعد العمى».
الخطر الثالث: إستغلال جهل الناس بالدين
مشكلة الأمة الإسلامية اليوم هو ضياع العلماء الربانيون ورجال الدين المتقون بين السلطتين الإستبداديتين السياسية والدينية، فلا يستطيع رجل الدين الرباني مواجهة السلطة الظالمة إلا إذا عزم على الإستشهاد أو السجن أو النفي ولا يستطيع مواجهة الجمهور ويحملهم مسؤلياتهم فيرمونه بالحجارة وهو مأمور بمخاطبة الناس على قدر عقولهم, لهذا السبب يبرز رجل الدين الآخر الذي يعمل برأيه فيبيع ويشتري أين تكمن المصلحة الشخصية مع السلطان الظالم أو مع الناس. يقول الشيخ النائيني: «إن بعض رجال الدين الذين خدعوا الشعب – اعتماداً على جهالته وعدم خبرته بمقتضيات الدين – بوجوب طاعتهم، وهذا النوع طالما حذرت منه الروايات التي تصف العلماء الذين اتخذوا من الدين وسيلة للسيطرة على العوام»، وهذه الحقبة التي نعيشها ليست أقل من عهد علماء السلاطين في حكم بني أمية وبني العباس.
Leave a Reply