نبيل هيثم
لم يكن مفاجئاً ان تشن تركيا عدواناً عسكرياً على سوريا، فللدولة التركية سوابق عدّة فـي تاريخ التدخلات العسكرية بدول الجوار. وليس المقصود بذلك، الغزوات العثمانية القديمة، وانما الغزوات العثمانية الجديدة خلال العقد المنصرم فـي العراق، ومؤخراً الانخراط المباشر فـي الازمة السورية.
ضريح سليمان شاه في سوريا |
كذلك، لم يكن مفاجئاً ان تدخل تركيا عسكرياً على خط الصراع فـي سوريا بهذا الشكل المباشر، فرجب طيب اردوغان جعل معركة اسقاط نظام الرئيس بشار الاسد تساوي فـي اهميتها الاستراتيجية معركة مرج دابق التي غزا بها بنو عثمان بلاد الشام – مع الإشارة الى ان «دابق» هي التسمية ذاتها المعتمدة لِـ «المعركة الفاصلة» فـي ادبيات تنظيم «الدولة الإسلامية فـي العراق والشام» (!) وعلى هذا الاساس، راح السلطان العثماني الجديد يبشر بأن صلاة العيد (2012) ستكون فـي المسجد الاموي فـي حلب، وربما فـي المسجد الاموي فـي دمشق، مؤذناً بسقوط الدولة السورية.
ولم يكن مفاجئاً أيضاً ان يتم الاقتحام التركي للاراضي السورية، ونقل ضريح جدّ مؤسس الدولة العثمانية عثمان بن أرطغرول، من موقعه قرب مدينة منبج فـي ريف حلب إلى موقع جديد فـي الأراضي السورية فـي منطقة أشمة غربي مدينة عين العرب – كوباني، من دون خسائر بشرية (فـي ما عدا جندي تركي قضى فـي «حادث» عرضي)، او حتى من دون إطلاق طلقة رصاص واحدة من قبل «الدولة الإسلامية فـي العراق والشام»، فالضريح المحاصر منذ اشهر يكاد يكون الوحيد الذي لم يهدمه ارهابيو التنظيم المتشدد فـي مناطق سيطرتهم، بالرغم من كونه تحت مرمى نيرانهم!
ولعلّ النجاح التام لعملية نقل ضريح سليمان شاه بهذا الشكل الهادئ، وتفاخر رجب طيب اردوغان ورئيس وزرائه احمد داود اوغلو وقادة اركانه العسكريين بهذا «الانجاز»، يخفـي فـي طياته سلوكاً تركياً، اشار اليه كثيرون، بداية من الاكراد وصولاً الى وسائل الاعلام الغربية، ويتعلق بالتقاطع الذي يكاد يصل الى حد التحالف بين نظام «حزب العدالة والتنمية» و«الدولة الإسلامية»، وهو ما تبدى فـي تسهيل عمليات التمويل للتنظيم التكفـيري وتمرير «الجهاديين» عبر الحدود التركية للقتال فـي سوريا والعراق، والذي منح ضريح بني عثمان حصانة من التطبيق الشاذ الذي يعتمده التك فـيريون للشريعة الاسلامية.
ومع ذلك، فإن العملية التركية الاخيرة تثير تساؤلات كثيرة، سواء لجهة الابعاد او التوقيت، فالجنود الاتراك الثمانية والثلاثين الذي كانوا يتولون حراسة سليمان شاه، ظلوا محاصرين لثمانية شهور من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي يفرض نفوذه على محافظة الرقّة السورية. ومن هنا يطرح السؤال: لماذا اختار اردوغان هذا التوقيت لعملية الكوماندوس، التي اخترقت الحدود التركية – السورية بعمق 35 كيلومتراً، وشارك فـيها المئات من جنود النخبة المدعومين بالدبابات والآليات العسكرية والطائرات الحربية وطوافات الـ«اباتشي» وقدرات استخباراتية هائلة؟
ربّ قائل بأن العملية برمّتها تتعلق باعتبارات سياسية داخلية، خصوصاً بعدما دأبت أحزاب المعارضة التركيّة على استخدام حصار ضريح سليمان شاه لاتهام حكومة رجب طيب اردوغان بالضعف ازاء تنظيم «داعش»، لا بل بالتواطؤ معه.
واذا كان هذا التفسير، الذي قدّمته الآلة الإعلامية لـ«حزب العدالة والتنمية»، يبدو صائباً بدرجة كبيرة، إلا انه يثير تساؤلاً حول المخاطر المترتبة على عملية عسكرية بهذا الحجم فـيما لو انتهت بكارثة على الجيش التركي، فمن المؤكد أن آخر ما يفكر فـيه اردوغان، مع اقتراب الانتخابات التشريعية الحاسمة، هو الاقدام على مخاطرة من هذا القبيل، وبالتالي تقديم فرصة للمعارضة العلمانية بالتصويب عليه قبل الانتخابات مباشرة، وخصوصاً فـي ظل تنامي الانتقادات الداخلية ازاء تدخله فـي الصراع الداخلي، الذي بدأت تداعياته تصيب الداخل التركي.
وقد المح اردوغان بنفسه الى هذه الفرضية حين قال، فـي معرض تبريره للعملية، انه «تم إفساد لعبة من حاولوا استغلال الضريح وجنودنا لابتزاز تركيا»، من دون ان يذكر ما اذا كان يقصد بذلك فـي قرارة نفسه «داعش» – الذي سبق ان وجّه قبل بضعة اشهر تحذيراً باستهداف الضريح، ولم يأخذه احد على محمل الجد – ام معارضيه العلمانيين الذين يتيحنون الفرصة للانقضاض عليه.
ولكن هذه الفرضية، كما اسلفنا، تحوي على نقاط ضعف، تثير الشكوك حول الجدوى العسكرية من الدخول فـي مغامرة تنطوي على قدر كبير من المخاطر، وتسخر فـيها قدرات عسكرية هائلة، فـي حين تقتصر جدواها على الاطار السياسي الداخلي، ما يدفع الى القول ان جدواها استراتيجية ترتبط بالطموحات الاقليمية لنظام «حزب العدالة والتنمية»، وتتعدى بذلك الجدوى التكتيكية المرتبطة بمنازلة «حزب الشعب الجمهوري» او «الحركة القومية»، او حتى الغولينيين.
ولعل ما بدأ يتكشف فـي كواليس العملية العسكرية، سواء لجهة حصول اردوغان على ضوء اخضر غربي لاختراق الحدود السورية، او لجهة ما يتردد عن تنسيق ميداني مع الاكراد، وكذلك مع «الدولة الاسلامية»، لتنفـيذ العملية يخرج ما جرى من اطاره الداخلي ويضعه فـي اطار اوسع.
ولذلك فإن ثمة من يرى ان الاختراق العسكري للحدود السورية من قبل الجيش التركي، يؤذن الى بداية مرحلة جديدة من التدخل التركي فـي الصراع الدائر فـي سوريا، وعليها، خصوصا ان العملية العسكرية ترافقت مع تطورين متصلين بشكل وثيق بهذا الصراع الذي يدخل بعد اسبوعين عامه الخامس، واولهما انحسار هجوم «الدولة الإسلامية» على عين العرب (كوباني) والقرى الكردية المحيطة بها، وثانيهما الاتفاق التركي- الأميركي على تدريب قوات من المعارضة السورية والبيشمركة، فـي ما يرتّب خريطة جديدة للوضع السوري قد يزداد فـيها الثقل التركي، ما سيؤدي بالضرورة إلى نزاع متزايد مع «داعش» والجيش السوري على حد سواء، وربما مع «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي تنظر بعين الريبة الى الاجندة التركية فـي الشمال السوري.
و فـي هذا الإطار، يمكن القول إن اختراق الحدود السورية ونقل ضريح جد العثمانيين الى مكان داخل الاراضي السورية ايضاً (ريف حلب)، يؤكد أن اردوغان قد وفر قاعدة انطلاق احتياطية لعمليات الجيش التركي، وذلك لتحقيق هد فـين، الاول هو مراقبة تحركات الأكراد من الداخل السوري بعد تأمين طرق للإمداد فـي عين العرب (كوباني)، والتدخل ضد «وحدات حماية الشعب» ان دعت الحاجة. والثاني، فرض الاجندة التركية على مهمة الوسيط الدولي استيفان دي ميستورا، فـي ظل تزايد التأييد الدولي لمبادرة تجميد القتال فـي حلب، والتي يسعى الاتراك الى ان تلبي مصالحهم ومصالح حلفائهم فـي المعارضة المسلّحة.
ولكن ثمة رأياً آخر يصب فـي الاطار الاستراتيجي ايضاً، وهو ما يطرحه معارضو اردوغان الاقليميون والدوليون، ومفاده ان السلطان العثماني الجديد ربما ادرك عقم سياساته ازاء الصراع السوري، ولهذا فإنه يحاول لملمة الموقف، والانسحاب التدريجي من المأزق السوري، والانكفاء الى الداخل، بعدما انكشف موقفه ازاء «داعش» امام حلفائه الغربيين.
ولعلّ اسطورة سليمان شاه بحد ذاتها تحمل رمزية بالغة فـي هذا الإطار، فجد بني عثمان، الذي نقل ضريحه من منبج الى اشمة، غرق فـي نهر الفرات خلال فراره من غزوة المغول، ولهذا فإن كثراً يرون ان اردوغان يكرر اليوم تجربة جدّه الاكبر فـي الفرار من «مغول العصر» التكفـيريين.
ومن المؤكد انه لو تعرّض ضريح سليمان شاه الى اعتداء من «داعش»، فإن الحكومة التركية كانت ستجد صعوبة كبيرة فـي عدم التدخل عسكرياً بقوة ضد التنظيم المتشدد فـي سوريا، خاصة فـي ظل ضغوط من الرأي العام الداخلي، ولذلك فإن نقل هذا الضريح وإخلاء الجنود الأتراك قد أنقذ الحكومة من أزمة محتملة.
اما وان الضريح قد نقل، فإن الامر كان سيفسّر على انه انسحاب علني من الصراع السوري، وهو ما نفاه اردوغان بعد يوم من العملية العسكرية حين قال ان «عملية ضريح سليمان شاه ليست انسحابا… بل تحرك مؤقت كي لا نعرض أرواح الجنود للخطر»، واكدته ايضاً تفاصيل العملية العسكرية، التي اختارت بها تركيا ان تظل رفات جد العثمانيين كمسمار جحا فـي سوريا، إذ بدلا من استعادتها نهائياً، ودفنها فـي تركيا، قرر اردوغان الاستحواذ على موقع فـي اشمة الكردية السورية، فـي منطقة الإدارة الذاتية، لإعادة دفن الرفات.
قبل نحو 800 عام، طاردت جحافل المغول زعيم قبيلة «قايي»، حتى نهر الفرات بالعراق إلى أن لقي حتفه غرقًا مع جنوده أثناء فرارهم. اليوم يتكرر المشهد فـي سوريا ايضاً، ولكن فـي عصر التحولات الدولية الكبرى، وعودة الإمبراطوريات القديمة بأشكال جديدة، لا بد ان اردوغان يحاول تجاهل سيرة سليمان شاه.. والتركيز على سيرة السلطان محمد الفاتح فـي اطار سياسته التوسعية.
ضريح سليمان شاه
مساحة ضريح سليمان شاه تكاد توازي مساحة ملعب كرة قدم، لكن أهميته السياسية والتاريخية تفوق كثيراً اهمية المساحة.
كان الشاه زعيما قبليا تركيا شهيرا عاش فـي الفترة من 1178 وحتى 1236، ووفقا لكتابات منقوشة على الضريح، فقد لقي مصرعه فـي نهر الفرات مع اثنين من رجاله.
وجرى دفن سليمان شاه قرب موطن قبيلته فـي سوريا، غير أن القبيلة رحلت لاحقا لاستكمال رحلتها إلى تركيا، فـيما أسس حفـيده عثمان أول شكل من أشكال الدولة فـي تلك المنطقة لتبسط سيطرتها شيئاً فشيئاً، حتى تحولت إلى إمبراطورية عثمانية.
ويقع ضريح سليمان شاه السابق فـي جيب اسمه كابر كالسي باللغة تركية او قلعة جعبر باللغة العربية، وهو يخضع للسيادة التركية، وتقترب حدوده من مدينة الرقة، التي يبسط تنظيم «داعش» نفوذه عليها.
ويعود الاهتمام ببناء الضريح إلى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، الذي قرر تكريم ذكرى جد الأسرة ورحلته الطويلة، وأصبح مثواه رمزاً قومياً من الرموز التركية التي اضطر زعيمهم مصطفى كمال أتاتورك إلى الحفاظ عليها بموجب معاهدة مع الفرنسيين.
وجرى نقل ضريح سليمان شاه من موقعه
الأول قرب نهر الفرات إلى منبج فـي العام 1973، حماية له من إغراقه بمياه نهر الفرات مع بناء سد الطبقة.
«حراسة» أم «سيادة»؟
يعود تاريخ السيادة التركية على الضريح
إلى نص المادة التاسعة من المعاهدة التركية – الفرنسية الموقعة فـي العام 1921، فـي عهد الانتداب الفرنسي على سوريا.
واتفق الجانبان على أن يبقى الضريح تحت السيطرة التركية ويسهر على حمايته جنود أتراك ويرفع فـيه علم تركي لكن السطرين من الاتفاقية، اللذين ينظمان وجود الحراسة التركية، لا يأتيان على ذكر أي سيادة تركية على أرض الضريح، بل على ملكيته والمباني الملحقة به.
وتقول الفقرة التاسعة من الاتفاقية الحدودية، التي وقعها فرانكلين بييون عن الانتداب الفرنسي ويوسف كمال بيك وزير خارجية مصطفى اتاتورك فـي العشرين من تشرين الاول العام 1921، ان «قبر سليمان شاه، جد السلطان عثمان مؤسس السلالة العثمانية، القبر المعروف بالمزار التركي، الكائن فـي قلعة جعبر، يبقى مع ملحقاته، ملكاً لتركيا، ويمكنها أن تبقي على حراس وترفع علماً تركياً».
Leave a Reply