من صفحات تاريخ العرب الأميركيين: قصة «المستوطنة الأم»
خاص «صدى الوطن»
نيويورك ليست أكبر مدينة أميركية وحسب، بل هي أيضاً بوابة المهاجرين التاريخية إلى الولايات المتحدة، بمن فيهم العرب الأميركيون الذين تدفقوا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بعشرات الآلاف إلى المدينة المطلة على المحيط الأطلسي، والتي سرعان ما تحولت إلى فسيفساء ثقافية وإثنية فريدة من نوعها في العالم.
فقد أسست كُل جالية لنفسها موطناً ومقراً لها في أحياء سُمّيت بأسماء الأوطان الأم في نيويورك، فالصينيون لديهم «الحي الصيني» Chinatown والإيطاليون لديهم «إيطاليا الصُغرى» Little Italy، فيما كان للمهاجرين العرب –لاسيما من منطقة الشرق الأوسط– حيّهم الخاص، وهو «سوريا الصغرى» أو Little Syria الذي لم يتبق منه اليوم سوى ثلاثة أبنية صغيرة شاهدة على التاريخ وسط غابة من ناطحات السحاب في قلب القطاع المالي Financial District بمانهاتن.
«المستوطنة الأم»
عند وصول السفن إلى نيويورك خلال القرن التاسع عشر، كان المهاجرون الجدد من مختلف أنحاء العالم يدخلون من خلال مركز الهجرة في منتزه «باتري بارك» بعد إجراء المعاملات اللازمة، لينتشروا في أحياء مانهاتن المجاورة، ومنها شارع واشنطن الذي كان يبدأ من طرف الحديقة ويمتد شمالاً بطول حوالي كيلومتر واحد.
وحين بدأ العرب السوريون بالوصول إلى نيويورك، كان شارع واشنطن هو مكانهم المختار. وبدأت أعدادهم بالتزايد تدريجياً إلى أن صبغوا الحي بصبغتهم الخاصة، حتى أنهم كانوا يلبسون الألبسة التقليدية الشامية، فالرجال كانوا يرتدون الشروال والطربوش الأحمر بينما ارتدت النساء أغطية الرأس.
وأطلق على الجزء الجنوبي من الشارع أسماء عدة من بينها «الربع السوري»
Syrian Quarter و«المستوطنة السورية الرئيسية» Principal Syrian Colony و«المستوطنة السورية الأم» Mother Colony لكن الاسم الذي كان أكثر شيوعاً هو «سوريا الصغرى».
وحتى بعد أن انتقل مركز الهجرة إلى «جزيرة أليس» المحاذية لمانهاتن في عام 1892، استمر المهاجرون العرب الجدد يتجهون إلى شارع واشنطن عند وصولهم، وكان بعضهم يستقر هناك، والبعض الآخر يتوقف فيه كمحطة ثم يتابع رحلته إلى إحدى المدن المجاورة أو إلى إحدى الولايات الأخرى. لهذا اعتبرت «سوريا الصغرى» «المستعمرة الأم» التي منها انبثقت بقية الجاليات العربية في أنحاء أميركا، لاسيما في نيو جيرزي وبنسلفانيا وأوهايو وميشيغن وغيرها.
ازدهار سوريا الصغرى
هجرة العرب إلى الولايات المتحدة تعود إلى بدايات القرن التاسع عشر وربما قبل ذلك، لكنها شهدت في الفترة بين عامي 1880 و1924 ارتفاعاً ملحوظاً بهجرة نحو ١٠٠ ألف عربي معظمهم من مسيحيي الشرق الأوسط الذين غادروا بلادهم هرباً من الفقر والمجاعة والاضطهاد تحت حكم الدولة العثمانية لاسيما إبان الحرب العالمية الأولى، وكانت نيويورك أولى محطاتهم في وطنهم الجديد.
وقد استقر معظم هؤلاء بين شارعي واشنطن وريكتور في جنوب مانهاتن، ومع تكاثر أعدادهم كونوا جالية كبيرة، وأصبحوا أكثر عدداً من الألمان والأيرلنديين والبولونيين واليونانيين ممن سكنوا تلك المنطقة قبلهم بعقود.
ولأن أغلبية المهاجرين كانوا من سوريا الكبرى (اليوم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) فقد اشتهرت المنطقة باسمهم، علماً بأنه كان هناك أيضاً عدد محدود من المهاجرين العرب من بلدان أخرى مثل العراق واليمن ومصر والمغرب.
سريعاً، تحوّل الحي السوري إلى أحد المراكز الحضارية المهمة في نيويورك، وبحلول عام 1900 وبدايات القرن العشرين، كان أبناء الحي قد أنشأوا أكثر من 300 مشروع تجاري في نيويورك، الأمر الذي ساعدهم في تطوير نمو المدينة التي أصبحت أحد أهم المدن والموانئ والمراكز الثقافية في الولايات المتحدة بأسرها.
في «سوريا الصغرى»، سُمّيت المحلات باللغة العربية، وأينما تسير تجد المطاعم التي تُقدم الأكلات العربية الشعبية، وكذلك محلات الحلويات الشرقية المشهورة، كما انتشرت المقاهي على شارع واشنطن حيث كانت تقام فيها حفلات السمر والعزف على العود والتخت الشرقي، وكانت العربية هي اللغة السائدة في الحي المزدهر الذي تشكلت حدوده بين شارع سيدار شمالاً، وشارع باتري بلايس جنوباً، وشارع وست غرباً، وشارعي غرينيتش وترينيتي بلايس شرقاً.
نسيج متنوع
تشير الإحصائيات التاريخية إلى أن الغالبية العظمى من السوريين الأوائل ينتمون إلى الديانة المسيحية. ففي عام 1904 كان هناك 454 عائلة في «سوريا الصغرى». كلهم من المسيحيين إلا عائلة مسلمة واحدة مؤلفة من شخصين. لكن مع مرور السنوات ازداد عدد المسلمين وخاصة من الفلسطينيين وسكنوا في القسم الشمالي من الشارع ووصلت نسبتهم إلى 5 بالمئة من إجمالي الجالية. ولم يكن هناك أي مسجد للمسلمين في «سوريا الصغرى». وقد بني أول جامع في نيويورك على شارع ستايت بحيّ بروكلين عام 1928، وما زال هذا المسجد قائماً حتى يومنا هذا باسم «مسجد داوود».
شكلت طائفة الروم الكاثوليك (الملكيين) النسبة الأكبر من المسيحيين السوريين ثم جاءت من بعدهم الطائفة المارونية، بينما شكل الروم الأورثوذوكس حوالي الربع.
وأما عن الروم الكاثوليك، ففي عام 1889 جاء الأب ابراهيم بشواتي خصيصاً من روما وأصبح أول كاهن لكنيسة مسيحية من أصول عربية في أميركا.
كان هناك أيضاً بعض اليهود السوريين الذين اختلطوا أكثر مع اليهود الموجودين أصلاً ولم يختلطوا مع العرب. وجاء أيضاً عدد قليل من الدروز لكن غالبيتهم غادروا نيويورك إلى مناطق أخرى حيث عملوا بالزراعة.
مركز ثقافي وتجاري
في أواخر القرن التاسع عشر، تمكن الأخوان نعّوم وسلّوم مكرزل من تطوير آلات طباعة الصحف حيث أضافا إليها الأحرف العربية، فظهرت في نيويورك صحيفة «كوكب أميركا» عام 1892 التي تُعد أول صحيفة باللغة العربية تظهر في القارة الأميركية لكنها لم تستمر طويلاً، وتلاها العديد من الصحف البارزة أشهرها صحيفة «الهُدى» (1898–1968) إضافة إلى إصدار العديد من الكتب والروايات التي من بينها «كتاب خالد» الذي أصدره الأديب أمين الريحاني عام 1911. وكان أول روائي عربي يكتب رواية باللغة الإنكليزية، مقدماً صورة دقيقة عن الحياة في «سوريا الصغرى» خلال تلك الفترة.
ثم أُنشئت رابطة أدبية سميت بـ«الرابطة القلمية» جمعت عديداً من كبار أدباء المهجر، وعلى رأسهم جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة.
ولم يكتف أولئك الأدباء بالكتابة باللغة العربية بل كتبوا أيضاُ باللغة الإنكليزية وظهرت بعض مقالات جبران في جريدة «العالم السوري» Syrian World التي صدرت باللغة الإنكليزية في عام 1926.
وإلى جانب النهضة الثقافية العربية التي سطرها أولئك الأدباء والشعراء، ظلت التجارة، المهنة الأكثر تداولاً بين المهاجرين العرب آنذاك.
فقد عمل المهاجرون بدايةً، باعةً متجولين يجوبون شوارع وساحات نيويورك بعرباتهم أو يحملون الأكياس والصناديق على ظهورهم وأكتافهم. ويبيعون الفواكه والملابس والمشروبات والحلي والأيقونات وغيرها، بينما كانت صناديق بعض الباعة منهم تحمل الإبر والدبابيس والأمشاط والمسابح وغيرها مما خف وزنه.
كانت هذه المهنة تدر مالاً وفيراً على الأسر العربية، وأحياناً أضعاف ما يوفره العمل في معامل النسيج التي كانت عملهم المفضل الثاني. ووصل دخل البائع المتجول السنوي ما يعادل خمسة أضعاف متوسط الدخل الفردي. وكان عدد البائعات المتجولات يساوي عدد الباعة من الذكور. وكذلك الحال بالنسبة لعمال المعامل حيث تساوى عدد الذكور والإناث، بحسب المؤرخين.
ومع توفر المال والمهارات، لجأ العرب إلى افتتاح مصالح تجارية متنوعة، حيث كثرت المحال والمطاعم والمقاهي ومعامل النسيج ومشاغل السجاد اليدوي وغيرها من الصناعات الصغيرة. وكانت محلات سوريا الصغرى تبيع كل ما له صلة بعالم الشرق مثل السيوف والنراجيل والمصابيح والصواني النحاسية وصولاً إلى البهارات والحبوب والبقول العربية وغيرها. كما كثرت محلات الصاغة وبيع القماش والسجاد وبيع الاسطوانات. وأنشئت مستودعات ضخمة لتجارة الجملة التي كانت ترسل بضائعها إلى الولايات البعيدة وحتى إلى بلدان أخرى مثل كندا وأميركا الجنوبية والبحر الكاريبي.
الاضمحلال
مع اكتمال جسر بروكلين 1883، ثم افتتاح النفق بين مانهاتن وبروكلين 1910، بدأ سكان «سوريا الصغرى» بالتوسع باتجاه مناطق أخرى في نيويورك أبرزها بروكلين، هرباً من الازدحام الشديد الذي شهدته مانهاتن خلال تلك الحقبة. واستقر معظمهم حوالي الجزء الغربي من شارع أتلانتيك المقابل لمرفأ نيويورك، وأصبح هذا الشارع يعرف بـ«شارع واشنطن الجديد»، وأحياناً كان يطلق على هذه المنطقة اسم «سوريا الصغرى الثانية»؛ لأنها كانت امتداداً للحي الأصلي في مانهاتن.
وقد أدى التطور العمراني الهائل الذي شهدته مانهاتن بعد الحرب العالمية الأولى وظهور ناطحات السحاب التي بدأت تتكاثر بوفرة في المدينة، وكذلك الكساد الاقتصادي الكبير في نهاية العشرينات، إلى التضييق على سكان وتجار «سوريا الصغرى» الذين راحوا يبيعون مساكنهم ومحلاتهم التجارية ومستودعاتهم ويتجهون إلى مناطق أخرى أبرزها بروكلين.
كذلك اتخذت الحكومة الأميركية عام 1924، قراراً بتحديد «كوتا» للمهاجرين من الدول العربية بمائة مهاجر فقط سنوياً، وهو قانون ظل سارياً حتى أواخر ستينات القرن الماضي، وأدى إلى قطع الشريان الذي يضخ دماً جديداً من العالم العربي إلى «سوريا الصغرى» التي لم يبق فيها إلا جيل المهاجرين الأُوَل وبعض من الجيل الثاني. وبدأت «سوريا الصغرى» تفقد بريقها تدريجياً ليسطع بريق بروكلين وأتلانتيك أفنيو..
أضف إلى ذاك، أن الأجيال العربية الجديدة كانت أكثر اندماجاً بالمجتمع الأميركي وابتعد معظمهم عن مهنة الأهل ودخلوا الجامعات وأصبحوا من أصحاب المهن العالية وانتشروا في أنحاء الولايات المتحدة. كذلك بدأ الشباب يختلطون ويتزاوجون مع الشعوب غير العربية وشرعوا باختيار أماكن للسكن خارج أوساطهم التقليدية.
بعد الحرب العالمية الثانية جاءت الطامة الكبرى على «سوريا الصغرى»، وذلك بشق نفق بروكلين–باتري الذي مزق قلب الحي، ومع ازدياد أعمال التحديث وعدد ناطحات السحاب التي استدعى بناؤها هدم كثير من المباني القديمة في الحي، جاءت نهاية «سوريا الصغرى» مع الشروع في بناء مركز التجارة العالمي بالجزء الشمالي لشارع واشنطن في ستينات القرن العشرين.
ما تبقى
لم يتبق من سوريا الصغرى اليوم إلا ثلاثة مبان تاريخية على شارع واشنطن فقط: المبنى الأول هو كنيسة القديس جورج (مار جريس) السورية للروم الكاثوليك، وهو بناء شيد أساساً عام 1812 كفندق وبناء سكني، قبل أن يتحول إلى كنيسة عام 1925. وفي عام 2009، عد المبنى أثراً تاريخياً من آثار مدينة نيويورك يُحظر هدمه أو المساس به، وذلك للواجهة الزخرفية الفريدة التي يتميز بها، والتي يتوسطها تمثال لمار جريس على حصانه وهو يطعن التنين.
أما البناءان الآخران فهما: المبنى 107–105 شارع واشنطن، الذي شيد عام 1925 على أنقاض بناء سكني سابق تم هدمه. وخصصه حاكم ولاية نيويورك آل سميث ليقدم الخدمات الاجتماعية للمهاجرين الجدد من تعليم وصحة وتدريب مهني، وتحوّل فيما بعد إلى بناء سكني متعدد الشقق. والمبنى الثالث هو «109 واشنطن»، شُيّد بين عامي 1850 و1870 وكان دائماً بناءً سكنياً متعدد الشقق عاش فيه كثير من العائلات العربية المهاجرة.
■ يختلف المؤرخون حول أول المهاجرين العرب إلى أميركا، فهناك من يعتقد بأن الأندلسيين اكتشفوا أميركا قبل كولومبوس بقرون عديدة والبعض يعتقد أن أوائل العرب جاءوا إلى أميركا الشمالية مع المستكشفين الأسبان في القرن الخامس عشر. آخرون يقولون إن عائلة «وهاب» من الجزائر استوطنت في كارولاينا الشمالية بعد أن تحطمت سفينتهم في عام 1779. أما من بلاد الشام فيعتقد أن أول المهاجرين كان شاباً من جبل لبنان واسمه «أنطون بشعلاني» وجاء في عام 1854، وعاش ومات في نيويورك.
■ ظلت أعداد المهاجرين العرب محدودة إلى أن بدأت الهجرة الكبيرة، حيث استقبلت أميركا بين عامي 1880 و1924 حوالي 20 مليون مهاجر بينهم حوالي 100 ألف مهاجر عربي غالبيتهم العظمى كانت من مسيحيي سوريا الكبرى (والتي كانت تشمل آنذاك سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) إلى جانب عدد محدود من المهاجرين من العراق واليمن ومصر والمغرب.
■ حين رُفعت أنقاض مبنى التجارة العالمي عام 2002، وُجد حجر أساس لكنيسة مارونية أنشئت قبل قرن من إنشاء المركز نفسه في ستينيات القرن العشرين. وفي الذكرى العاشرة لهجمات «١١ أيلول» الإرهابية، افتتح متحف في موقع البرجين، يحوي صوراً لجميع أحياء نيويورك القديمة، احتفاءً بأثر المهاجرين في تأسيس المدينة، لكن لم يكن هناك أي ذكر لـ«سوريا الصغرى»، رغم أن المتحف المقام ومن قبله البرجان وجميع المباني المجاورة بُنيت داخلها.
■ متحف «جزيرة أليس» التي كانت المحطة الأولى لأي مهاجر للولايات المتحدة بعد عام ١٨٩٢، يحتفظ بجميع السجلات لجميع المهاجرين الذين أتوا إلى الولايات المتحدة، يضم المتحف ركناً خاصاً بـ«سوريا الصغرى»، اعترافاً به كونه أحد الأحياء الرئيسية في المدينة، مثل الحي الصيني والإيطالي.
Leave a Reply