سوريا لن تفرّط بتحالفها الإستراتيجي مع إيران وحركات المقاومة في فلسطين ولبنان، حتى لو ظلّت الجولان تحت الإحتلال الإسرائيلي أربعين سنة أخرى، فهي وإن تجاوبت مع مبادرة تركية للتوسط بينها وبين إسرائيل لعقد معاهدة سلام تسترد بموجبها كامل هضبتها المحتلة، فإن ذلك لا يعني قبولها فكرة المساس بأمنها الإستراتيجي وسياساتها الخارجية، وهي إن فعلت ذلك فكأنما تذهب إلى معركة مفاوضات دون سلاح.
القيادة السورية تدرك أن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بخصوص إستعداده للإنسحاب من الجولان، هي مجرد سحابة دخان سرعان ما تنجلي مخلّفة وراءها أجواء ملبدة تحيط بمنطقة الشرق الأوسط، لا أحد يعرف إن كانت ستفضي إلى حرب أم إلى سلام.
فقد سبق هذه المناورة الدبلوماسية من جانب إيهود أولمرت، مناورة عسكرية من جانب إيهود باراك على الحدود مع لبنان وسوريا لم تشهد لها إسرائيل مثيلا، وقد تبعها مباشرة تحركات أميركية بإتهام سوريا بامتلاكها مشروعا لإنتاج أسلحة نووية، كتلك التي أفضت إلى إنتهاك سيادة العراق من فرق التفتيش الدولية ومن ثم إحتلاله وإسقاط نظامه وتحويله إلى بحر من الفوضى.
الأجواء ملبدة هي الأخرى على الساحة الفلسطينية ويسودها الإرتباك، فبينما هي إسرائيل تحضّر لهجوم واسع النطاق على غزة، ترسل موفديها إلى القاهرة لإبرام هدنة مع المقاومة وتفك الحصار عنها. أما في لبنان الذي هدّت الحرب الباردة بين الموالاة والمعارضة أوصاله. ولم يعد قادرا حتى على إنتخاب رئيس له، فهو المرشح لإطلاق شرارة الحرب الأولى في المنطقة أن كان هناك من حروب، وقد يكون ذلك على خلفية الثأر لإستشهاد القائد العسكري لحزب الله عماد مغنية، الذي تواطأت إسرائيل والولايات المتحدة لإغتياله، وهذا ما دفع وزارة الخارجية الأميركية الأسبوع الماضي إلى بث نداء إلى الأميركيين بعدم السفر إلى لبنان، وإلى الرعايا هناك بوجوب المغادرة أو إتخاذ الإحتياطات لحماية أنفسهم.
البوارج الأميركية في بحر الخليج أطلقت قذائفها باتجاه زوارق حربية إيرانية مؤخرا، تقول أنها اقتربت منها، والجنود الأميركيون يتساقطون على الأرض العراقية، وواشنطن تضع دماءهم في أعناق الإيرانيين والسوريين.
هذا هو المشهد في الشرق الأوسط، معقد وسيزداد تعقيدا إبان زيارة مرتقبة للرئيس الأميركي جورج بوش إلى المنطقة منتصف الجاري، في الذكرى الستين لقيام الدولة العبرية، سبق زيارته تصريحات أدلى بها أثناء إجتماع له مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في واشنطن، تعهد له فيها بوضع «تعريف» للدولة الفلسطينية قبل إنتهاء العام 2008، بعد أن كان وعد بقيامها.
بكلام آخر الأمة العربية موجوعة في أمنها الإجتماعي والإقتصادي والمعيشي نتيجة إرتباطها بالعجلة السياسية والإقتصادية والأمنية الأميركية وتابعتها الإسرائيلية، ها هي مصر ثاني أكبر متلقية للمساعدات الأميركية شعبها يئن من الجوع ولا يجد فقراؤه حتى الخبز، ودول الخليج المترعة خزائنها بالدولارات النفطية تعاني من التضخم والبطالة والغليان الإجتماعي والأمني، ولبنان المرتبط نصفه بواشنطن حمّل شعبه ديونا وصلت إلى 50 مليار دولار وهو يعاني أزمات سياسية ومالية لا حصر لها.
فقط هي سوريا تنعم بالأمن الداخلي وقادرة على إنتاج ما يكفيها من القمح وسلة المواد الغذائية بحسب تقارير نشرتها مؤخرا وكالات الأمم المتحدة، وهي الوحيدة لا تحمل ديونا للبنوك الغربية بعشرات المليارات، وهي متحررة في إتخاذ قراراتها ورسم سياساتها دون عرضها مسبقا كما يفعل الآخرون على البيت الأبيض، وهي الوحيدة القادرة على الدفاع عن نفسها، فقد بنت إستراتيجية دفاعية على مدى سنين ليس لها مثيل، فهي من ناحية زودت جيشها بأحدث الصواريخ روسية الصنع تستطيع الوصول إلى قلب إسرائيل، وذلك كاف لردع هذه الأخيرة إن هي فكرت باستثمار تفوق سلاحها الجوي، فيما تدعم مقاومة لبنانية باسلة يمكن لها أن تثخن إسرائيل بالجراح في حال تشوب حرب، ناهيك عن دعمها لمقاومة فلسطينية سببّت صداعا لإسرائيل. القيادة السورية لا تخشى أن يحلّ بها ما حلّ في العراق، فقد ضربت مثلا للولايات المتحدة في بلاد الرافدين كيف للشعوب أن تقاوم في حال إنهيار أنظمتها. لذلك فهي آمنة من غزو أميركي محتمل.
أما إيران فلا يعقل أن تفكك علاقتها الإستراتيجية بالحليف السوري الذي وقف إلى جانبها في الأيام الحالكة. ولا يعقل لسوريا أنتقطع شريانا يمدها بالمال والسلاح، فأين من كل هذا مبادرات للسلام يحكى عنها بين دمشق وتل ابيب؟
Leave a Reply