هلع في إسرائيل
ما قبل موقعة «إيليوشين–20» الجوية ليس كما بعدها.
الفخ الذي خططت إسرائيل لنصبه في سوريا، سرعان ما انقلب فشلاً استراتيجياً خطيراً لسياساتها السورية، وتغيير قواعد الاشتباك الذي سعت إليه من خلال استدراج نيران الدفاعات الجوية السورية نحو الحليف الروسي، حدث بالفعل، ولكنّه تغيير جاء لصالح المعسكر المقابل.
في روسيا، لم يكن الأمر يتطلب الكثير من التفكير لاتخاذ الرد المناسب. أسبوع بالضبط، أمضاه الخبراء الروس في تحليل البيانات الرادارية التي من شأنها أن تؤكد الانطباع الأوّلي، بأنّ إسقاط طائرة «إيليوشين–20» في السماء السورية كان نتيجة عمل متعمّد من قبل الإسرائيليين.
على هذا الأساس، عاد قائد سلاح الجو الإسرائيلي من موسكو إلى تل أبيب بخُفَّي حنين، بعدما فشلت كل محاولاته لامتصاص الغضب الروسي عبر الزعم بأنّ ما حدث كان خطأً غير مقصود يتحمل تبعاته السوريون.
بدا واضحاً، منذ البداية، أنّ الرواية الإسرائيلية كانت تفتقد إلى الحد الأدنى من العناصر التي ربما تجعل الروس يغيّرون من موقفهم، سواء لتحقيق الهدف الرئيسي وهو تحييد الدفاعات السورية لضمان حرية التحرّكات الجوية الإسرائيلية في سماء سوريا، أو في أفضل الأحوال امتصاص الغضب الروسي، والتوافق على تفاهمات جديدة خاصة بقواعد الاشتباك الجوي.
الرد الروسي
بالنسبة إلى الروس، كانت بضعة أيام كافية للاستماع إلى الرواية الإسرائيلية، بالتوازي مع تحليل البيانات الواقعية، على نحو يمهّد الأرض نحو إجراءات الرد الذي لاحت بوادره منذ التصريح الأول لوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، والذي اتسم بلهجة حادة، لم تخفف منها اللهجة الأكثر هدوءاً التي علّق بها الرئيس فلاديمير بوتين على الحادث.
وإذا كان التفاوت في حدّة اللهجة بين الرئيس الروسي ووزير دفاعه، قد أعطت انطباعاً في البداية، بأنّ الرد الروسي قد لا يكون على مستوى خطورة الحادثة، فإنّ كل شيء بدا محسوماً يوم الاثنين الماضي، حيث انتقل التقييم الروسي للحادثة الجوية من الحديث عن «المسؤولية الجزئية» إلى «المسؤولية الكاملة». التي تتحملها إسرائيل إزاء إسقاط الطائرة الروسية ومقتل طاقمها المؤلف من 15 عسكرياً.
هذا التقييم الذي جاء كخلاصة شرح مطوّل قدمه المتحدث الإعلامي باسم وزارة الدفاع الروسية إيغور كوناشينكوف، لم يترك أيّ مجال للشك في حيثيات الإجراءات التي أعلن عنها سيرغي شويغو، وأهمها على الإطلاق قرار تسليم سوريا منظومة «أس–300» في غضون أسبوعين، وهي خطوة من شأنها أن تحدث تغييراً جذرياً في قواعد الاشتباك في الأجواء السورية.
كلمة شويغو، عبر قناة «روسيا 24» الحكومية كانت واضحة في الحيثيات وحازمة في شكل الرد: «طواقم الطائرات الإسرائيلية، الذين يعرفون الوضع الجوي بشكل مثالي، احتموا وراء الطائرة الروسية، ما أدى إلى إسقاطها ومقتل 15 من جنودنا، وهو ما أجبرنا على اتخاذ رد مناسب يهدف إلى تحسين أمن القوات الروسية التي تؤدي مهمات لمكافحة الإرهاب الدولي في سوريا».
وفي إطار «الرد المناسب»، أعلن شويغو عن «تسليم القوات المسلحة السورية منظومات الدفاع الصاروخية الحديثة (أس–300)، القادرة على اعتراض الأهداف الجوية على مسافة تتجاوز 250 كيلومتراً، وإصابة عدة أهداف جوية في وقت واحد».
لعل قراءة أكثر تفصيلاً في خطاب شويغو تجعل من الممكن استشراف الحالة التي وصلت إليها حساسية التوازن في المنطقة. فوزير الدفاع الروسي رمى بالكرة في ملعب إسرائيل، حين ذكّر بأنه «في العام 2013، وبطلب من الجانب الإسرائيلي، أوقفنا تسليم منظومات «أس–300» إلى سوريا، بعدما كانت جاهزة للتسليم، وقد أكمل العسكريون السوريون التدريبات اللازمة» لتشغيلها، مضيفاً «اليوم اختلف الوضع. وهذا ليس ذنبنا».
وبحسب كلام شويغو أن فإنّ منظومة «أس–300» التي ستزود روسيا بها سوريا ستعزز بشكل كبير قدرات الدفاعات الجوية السورية».
وفي إجراءات لا تقل أهمية عن قرار تسليم السوريين منظومة «أس–300»، يمكن السورية إن روسيا في طريقها إلى «تغطية» السماء الروسية بالمنظومات الدفاعية، بعدما تقرر تزويد مراكز قيادة وحدات وتشكيلات قوات الدفاع الجوي السوري بأنظمة تحكم أوتوماتيكية، تزوّد بها فقط القوات المسلحة الروسية، ما سيضمن التحكم المركزي لجميع وحدات الدفاع الجوي السوري ومرافقه، ومراقبة الوضع الجوي وسرعة تحديد الهدف، والأهم من ذلك، سيتم ضمان تحديد جميع الطائرات الروسية من قبل وسائل الدفاع الجوي السوري.
وفي خطوة إضافية، أشار وزير الدفاع الروسي إلى أنه «في المناطق المجاورة لسوريا على البحر الأبيض المتوسط، سنطلق التشويش الإلكتروني لمنع الاتصالات بالأقمار الصناعية، والرادارات المحمولة جواً وأنظمة الاتصالات للطيران القتالي».
إرباك إسرائيلي
بدا واضحاً أنّ الخطوة الروسية قد أحدثت إرباكاً في تل أبيب التي ترى في حصول قوات الدفاع الجوي السورية على منظومة «أس–300» تغييراً خطيراً في قواعد الاشتباك.
هذا القلق لم يخفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في اتصاله الأخير بالرئيس الروسي، حيث أبدى معارضته للخطوة الروسية، محذراً من أن «تحويل أسلحة متطورة إلى جهاتٍ غير مسؤولة سيزيد من حدة المخاطر الإقليمية».
مع ذلك، فإنّ الخطاب الرسمي الإسرائيلي بقي مصرّاً على المكابرة، وهو ما تبدّى في تأكيد نتنياهو إن «إسرائيل ستواصل صون أمنها ومصالحها»، ومحاولة ترويج الرواية الأصلية القائلة بـ«مصداقية التحقيق الذي أجراه جيش الدفاع الإسرائيلي وبنتائجه»، وبالتالي إلقاء تبعات «الحادث المؤسف» على عاتق الجيش السوري، وكذلك على عاتق إيران التي «يزعزع عدوانها الاستقرار».
المثير للملاحظة في هذا الإطار، هو أنه بخلاف الإسهاب الذي اتسم به بيان رئاسة الحكومة الإسرائيلية حول المكالمة الهاتفية بين نتنياهو وبوتين، فإنّ البيان الصادر عن الكرملين بشأن الاتصال ذاته كان مقتضباً، إذ اقتصر على الإشارة إلى موقف الرئيس الروسي من أن القرارات الأخيرة «مناسبة» و«كافية للوضع الحالي».
صدى الموقف الإسرائيلي تردد في الولايات المتحدة، حيث أعرب البيت الأبيض عن أمله في أن تعيد روسيا النظر بهذا القرار، في حين ذهب مستشار الأمن القومي جون بولتون أبعد من ذلك، إذ رأى أن الخطوة الروسية تشكّل «تصعيداً خطيراً» في الحرب السورية، معتبراً أن «هناك حاجة لعملية سياسية لإنهاء الحرب في سوريا لكن خطط روسيا بشأن النظام الصاروخي تجعل ذلك صعباً».
كارثة استراتيجية
لا يجادلنّ أحد في أن القرار الروسي بشأن تسليم منظومة «أس–300» يشكل كارثة استراتيجية بالنسبة إلى إسرائيل، فهذا السيناريو ظل موضع متابعة دائمة من قبل القيادتين العسكرية والسياسية في إسرائيل من العام 2010، حين ألقت تل أبيب بثقلها لوقف تنفيذ اتفاق تمّ إبرامه في هذا الصدد بين روسيا وسوريا في العام 2010.
وفي العام 2013، استجابت الحكومة الروسية للمطالب الإسرائيلية، وتمّ إلغاء العقد الذي تم توقيعه سابقاً، وإعادة المبلغ المدفوع من قبل الحكومة السورية (حوالي 400 مليون دولار)، فيما تمّ استخدام الاحتياطي المتبقي من منظومة «أس300 – أم.بي.أو.2» في إكمال تنفيذ العقد الموقع مع إيران (تم إنجاز عمليات التسليم في العام 2017).
وقد عاد الحديث مجدداً عن احتمال توريد المنظومة الدفاعية إلى سوريا في شهر نيسان (أبريل) الماضي، عندما قامت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بتنفيذ هجوم صاروخي واسع على البنية التحتية العسكرية في سوريا. وبعد ذلك بشهر، كشف وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه يعلون أنّ إسرائيل «استخدمت قنوات الاتصال لعرقلة الإمدادات»، في حين عبّر وزير الاستخبارات الإسرائيلي، إسرائيل كاتس حينها عن شكوكه في أن تقوم روسيا بتزويد سوريا بهذا النظام الصاروخي لأنه «في هذه اللحظة سيعبر خطاً معيّناً في علاقاتنا».
مصدر القلق الإسرائيلي لا يخفى على أحد، فمنظومة «أس–300» ستجعل الجيش السوري قادراً في السيطرة على المجال الجوي بشكل كامل، وربما أبعد من ذلك، لا بل أن السوريين سيحصلون على تفويض مطلق لإسقاط الطائرات الإسرائيلية، كما سيكون بإمكانهم السيطرة على المجال الجوي حتى مطار بن غوريون الدولي، ومواجهة كافة المسارات التي يمكن أن تسلكها الطائرات الإسرائيلية، حتى حين يتعلق الأمر بتنفيذ غارات من الأجواء اللبنانية.
ويجمع الخبراء العسكريون الروس، على أن تسليم سوريا ما بين ثلاث وخمس من منظومات «أس–300»، مع إمكانية زيادة العدد إلى سبع أو ثمانٍ إذا لزم الأمر، يوفر مظلة كاملة في وجه التحركات الجوية الإسرائيلية، ما يعني أن قواعد اشتباك جديدة في الجو قد ارتسمت بالفعل لصالح الجيش السوري، توازياً مع قواعد الاشتباك الجديدة في البر، خصوصاً بعد اتساع رقعة السيطرة على مختلف الجبهات، وحسم وضعية إدلب، بعد التفاهمات الروسية– التركية.
وعيد فارغ
كل ما سبق، يجعل المناخ العام في إسرائيل متسماً بالقلق الذي يقارب حد الهلع، والذي يتستر خلف مزايدات ومكابرات من قبيل ما نقلته صحيفة «فزيغلياد» الروسية عن مصدر إسرائيلي بأنّ «المجمع العسكري الإسرائيلي لا يرى مشكلة في ظهور «أس–300» في سوريا»، وأنه «إذا لزم الأمر يمكن تدميرها بسهولة».
في المقابل، فإنّ الخبراء العسكريين الروس، وبحسب ما تعكسه تصريحاتهم لوسائل الإعلام الروسية المختلفة، يقاربون الوعيد الإسرائيلي بنوع من السخرية، خصوصاً أن القاصي والداني يدرك جيّداً أنه إذا كان «تدمير» منظومة استراتيجية مثل «أس–300» ممكناً من الناحية النظرية، فالأمر مختلف من الناحية السياسية ذلك أن آخر ما يمكن أن تفكر فيه إسرائيل، وفي ظل المعطيات القائمة حالياً، هو أن تضع نفسها في مواجهة مباشرة مع روسيا.
كل ذلك، يدفع إلى استشراف طبيعة التحركات على خط تل أبيب–موسكو في المرحلة الراهنة. بالنسبة إلى الروس، الأمر بات محسوماً، وهو أن حادثة «إيليوشين–20» لا يجب أن تتكرّر، وإلا فإنّ العواقب ستكون وخيمة. أما بالنسبة إلى الإسرائيليين، فالحاجة تبدو ملحة إلى احتواء الغضب الروسي، ليس من باب المناورة والخداع، وإنما من خلال تقديم تنازلات في السياسة، قد لا يقتصر مصدرها على إسرائيل فحسب، بل أيضاً الولايات المتحدة، وهو ما يعني أن التحرّك الإسرائيلي لاحتواء الكارثة الجيوسياسية الجديدة سيدور حول عنصرين: الرهان على الوقت لتنفيس الغضب الروسي من جهة والعمل على خطوات ملموسة تجاه إعادة بناء الثقة المهتزة… وفي كلا الحالتين، فإنّ روسيا وسوريا ستكونان أكبر الرابحين.
Leave a Reply