مسألة تحطيم الأصنام لها مغازي عميقة في الموروث الديني الإسلامي لما تحمل من دلالات متعلقة بإنهاء عصر الجاهلية الأسود وإطلاق الدعوة الإسلامية السمحاء. وبعد فترة الترهل التي اعترت جسم الأمة الإسلامية بفعل الفساد الذي بدأه حكام وطواغيت شوهوا الحضارة الإسلامية التي كان نجمها ساطعاً حتى عندما كانت أوروبا غارقة في جهلٍ غبي دامس، عاد الحكام العرب المسلمون إلى بناء القصور وحشد الجواري والخدم والحشم ونصب تماثيل لهم تحاكي اللات والعُزّى لدى قريش تعبيراً عن عنجهيتهم وتكبرهم، وأيضاً عن ابتعادهم عن جادة الصواب الديني. لهذا السبب عندما سقط تمثال أحد أكبر طغاة التاريخ، صدام حسين، في بغداد كان ذلك إيذاناً بسقوط دكتاتورية صنمية ليست في العراق فحسب بل على مر التاريخ الدموي. لكن للأسف حصل هذا من خلال إحتلالٍ عسكري أميركي إستعماري جديد كان ممهداً لثورات «القحط العربي».
إلا أن ليس كل التماثيل سواسية. هناك تماثيل ابداعية ينحتها فنانون عباقرة وهناك تماثيل تكريمية لرجالٍ عظماء غيروا مسيرة تاريخية معينة أوخلقوا إبداعاً أدبياً أو فنياً لا ينسى. وقضية السلفية الوهابية مع التماثيل، وغيرها الكثير كالتصوير والموسيقى وزيارة القبور، معروفة وممجوجة وشاذة مثلها مثل الفتاوى التي لا يقرها عقل ولا دين كإرضاع الكبير وأكل لحم الجن وممارسة الجنس مع الزوجة الميتة. فهم لايميزون بين تماثيل وأصنام تنفي وحدانية الخالق وبين تماثيل بريئة لشخصيات تاريخية وعلمية وإنسانية نصبت من أجل تخليد ذكرهم وذكرأعمالهم وإنجازاتهم.
لهذا السبب لم أتفاجأ عندما قطع أفراد مجموعة سلفية مسلحة رأس النصب التذكاري للشاعر والفيلسوف والاديب العربي أبو العلاء المعري في مسقط رأسه مدينة معرة النعمان في محافظة إدلب بشمال غرب سوريا التي يسيطر عليها مقاتلو المعارضة. ناشطون إتهموا «جبهة النصرة» الاسلامية المتطرفة بقطع رأس التمثال، وعرضوا صوراً لما قالوا انه التمثال بعد التعدي عليه. وتظهر الصور تمثالا نصفيا بني اللون مقطوع الرأس وعليه آثار طلقات نارية، مرميا على الأرض الى جانب قاعدة حجرية مرتفعة. كما تداول الناشطون على المواقع نفسها صورا للتمثال قبل الاعتداء، ويبدو فيها موضوعا على القاعدة التي كتب عليها «ابو العلاء المعري شاعرالفلاسفة وفيلسوف الشعراء»، وهي العبارة التي شوهها المعتدون على التمثال.
إلا أنه من الصعب الدفاع عن تمثال أبي العلاء «رهين المحبسين» المحزوز الرأس في زمن قطع الرؤوس البشرية وذبحها كالنعاج مع صرخات «الله أكبر»! لقد أضحت سوريا، مثل أبو العلاء، حبيس «الإرهابين» إرهاب الداخل وإرهاب الخارج. حتى الجار الأقرب لها أصبح أكثر البلدان عقوقاً والساسة الذين «عربشوا» و«نطنطوا» على شجرة سوريا وكانت لحوم أكتافهم من خيرات سوريا، أصبحوا أشد مضاضةً من الأعداء. هؤلاء وأسيادهم الذين «بصروا» بزوال النظام وأعطوه المواعيد تلو المواعيد، لم يحصدوا إلا خيبات الأمل. فالدور التركي والقطري، المتكئ على الدعم الأميركي، تراجع والسعودية قلقة من ثورةٍ مستعرة في الحجاز (لا أعرف لماذا يسمونها «حراكاً» وكأنها جزء من حركات سويدية!)، وفي مصر ثورة ثانية منعت من إنشاء دكتاتورية «اخوانية» كانت ستصبح أشرمن الساداتية أما في معقل «الربيع العربي» تونس فقد بدأت تباشير فشل القبضة السلفية الدينية تلوح في الأفق. وربما بسبب فشل التآمر الكوني على سوريا، خرجت إسرائيل من جحر دورها السري الداعم للمعارضة المسلحة، إلى المشاركة علناً في محاربة النظام.
لكن، المقاومة لن تسمح لإسرائيل برسم خطوط حمراء جديدة في الصراع وسوريا ستعود أقوى من السابق وهي ولو كانت تشبه المعري اليوم لكنها لن تكون كفيفة البصر العسكري ولا عمياء البصيرة السياسية، وإن الغد لناظره قريب.
Leave a Reply