في رواية “رجال في الشمس” يخبئ سائق الصهريج أبو الخيزران ثلاثة فلسطينيين داخل الخزّان، تمهيداً لتهريبهم من الأردن إلى الكويت، بحثاً عن فرص العمل، بعدما ضاقت الحياة الرحيبة في وجوههم. وعندما يتأخر السائق في مكاتب المداخل الحدودية، يموتون من شدة الحر وضيق التنفس. تحرقهم جهنم الصحراء، يشويهم الحديد على نار هادئة، وهم قابضون، حتى آخر نفس، على حلم اجتياز الحدود. ولكنهم يموتون. في تلك الرواية.. يصرخ غسان كنفاني بحرقة وألم وقهر: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟؟
ولماذا لم يدق السوريون جدران الخزّان الرهيب، طوال أربعين عاماً، وهم يحرقون، على نار هادئة، لماذا؟
يقول خبراء الرياضات العنيفة: إن الملاكمة أخطر من “الكيك بوكسينغ” ذات العنف الواضح والمدمي، والسبب.. هو القفازات. فالألم الذي تسببه القبضات والأقدام العارية في “الكيك بوكسينغ” يخلق استجابة سريعة عند اللاعب، فيقرر.. إما المتابعة أو التوقف عن اللعب. أما في رياضة الملاكمة، فإن القفاز يمتص تأثيرات اللكمات وقوتها آنياً، ولكنها تعمل على تخزين الآثار الهائلة في جسد اللاعب وجهازه العصبي، وهذا ما حصل مع محمد علي كلاي.
والنظام السوري الذي أدخل السوريين إلى الحلبة منذ أربعين عاماً، والذي يوصف بالنظام صاحب “القبضة الفولاذية والقفازات الحريرية”، هزم الشعب بضربة قاضية في مجازر حماة، التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف، ومايزال يعمل على إطالة زمن النزال، وهزيمتهم بالنقاط، وإنهاكهم وملاحقتهم وقمعهم وسجنهم وإهدار كراماتهم، ناهيك عن كمية الآلام والأوجاع التي تثقل ذكرياتهم وحياتهم وأحلامهم.
سورية هي البلد الذي وصفه أحد الصحفيين المتابعين للأحداث الأخيرة بـ”جمهورية الخوف”، والذي وصفه صحفي آخر “بالبلد الذي يحكمه الرجال.. ذوو الجوارب البيضاء”، في إشارة إلى أجهزة المخابرات التي تتحكم بكل مفاصل الحياة في سوريا. والنظام السوري لم ينجح وخلال أربعين عاماً من الحكم إلا بتصدير ملايين العمال إلى البلدان العربية طلباً للعمل، ولم ينجح إلا بإشاعة صورة الإنسان السوري بين العرب على أنه “مخبر” أو “مرتبط مع المخابرات” أو مشبوه، حتى جاء مسلسل “باب الحارة” وحوّل صور السوريين إلى “عكداء” وقبضايات، وحوّل السوريات إلى ربات منازل يحفرن الكوسا، ويطخبن اليبرق.
حتى السوريين المغتربين الذين تركوا أوطانهم يتجنبون الحديث في السياسة، أو العمل السياسي، أو انتقاد الأداء الرسمي، خوفاً من بطش الأجهزة الأمنية، بعد أن نجحت سياسات النظام في زرع الشكوك بينهم وعدم الثقة بين الأخوة والأقارب. هكذا صار الخوف السوري.. ماركة مسجلة. خوف.. عابر للأزمنة والقارات، فمن يصدق أن السوريين في أميركا، لا يجرؤون على الهمس فيما بينهم. من يصدق ذلك؟
وفي آخر بهلوانيات النظام السوري، هاهي القيادة السياسية الأمنية تعمل على إلغاء قانون الطوارئ، بعد نصف قرن من إعلانه، وإحلال قانون مكافحة الإرهاب مكانه. وفق القانون القديم كان جميع السوريين تحت الشبهة والتهمة، ووفق القانون الجديد، سيصبح جميع السوريين إرهابيين.
وكثيرة هي المرات، التي رأينا فيها الدبلوماسيين السوريين وهم يدعون الأميركان إلى الاستفادة من التجربة السورية في مكافحة الإرهاب (!)، ولكنهم الآن، في رسالة غزل واضحة للأميركيين والغرب، يقولون أنهم استفادوا من قوانين مكافحة الإرهاب في أميركا وأوروبا خلال الإعداد للقانون السوري الجديد.
وماذا عن قانون الأحزاب وقانون الإعلام ومسائل الحريات المدنية والعامة، ولماذا لا يستفيدون من التجارب الأميركية والغربية الأخرى في سن هكذا قوانين. سياسة الكيل بمكيالين.. هي عند الجميع. إنهم يعملون على ذر الرماد في العيون، والخداع المكشوف، والتشاطر، والحرتقة الحقيرة، في إيصال رسائل سياسية لأصحاب النفوذ والتأثير في العالم، ولكن السوريين.. دقوا جدران الخزان وحطموها وخرجوا.. إلى الهواء الطلق، وما من قوة قادرة بعد الآن على إعادتهم.. إلى داخل القنينة.
إن نظاماً، كالنظام السوري، يعتبر وجود آلات صرف نقدية في ثلاث أو أربع مدن في القرن الواحد والعشرين دليلا على الانفتاح الاقتصادي، هو نظام مفلس، وخارج التاريخ. ومن يصدق أن سوريا كانت في الخمسينات ثاني قوة اقتصادية في آسيا، بعد اليابان، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة.
الشعب السوري الذي رفع في البداية شعاراً أخلاقيا “الشعب السوري ما بينذل”، يرفع الآن شعاراً سياسياً: “الشعب يريد إسقاط النظام”.
Leave a Reply