آثرنا أن نتطرق في هذه المقالة، بعد أن شحذنا قلمنا إستعداداً للمعركة الكلامية، إلى موضوع المناقشات النيابية الرتيبة المتثاقلة والبطيئة كبطء السلحفاة والمملة بشكل مريع والمعبرة عن “فرادة النموذج اللبناني”، التي جرت خلال أيام لبنانية طويلة داخل “برلمان الفكاهة” ومعرض “أطفال السياسة” حيث إستعرض السادة النواب “بضاعتهم الديمقراطية” على الملأ الإلكتروني وأخرجوا كل اسلحتهم الخطابية ومواهبهم النثرية الفذة (رحم الله سيبويه الذي كان يتقلقل في قبره من المجازر التي كانت ترتكب بإسم اللغة العربية على لسان النواب الفصحاء وخصوصاً رئيس الحكومة الذي اعياه “ماراثون” البيان الوزاري أكثر من “ماراثون” بيروت بمشاركة هيفاء وهبي) وتنافسوا على المبارزات اللغوية متعشمين الشهرة الاعلامية ولو لدقائق معدودات رغم معرفتهم بالنتيجة سلفاً وبعدم إمكانهم من تخطي الحدود المرسومة لهم بإتقان! فليس بإمكان عماد الحوت من كتلة “لبنان -أولاً” أن يخدعنا ويهين ذكاءنا بالامتناع عن التصويت على منح الثقة للحكومة لإنه يؤدي دوره من توزيع عبثي وبشع للأدوار إقتضى “تفجير” قنابل صوتية صغيرة من قبل سعد الحريري هنا وهناك من أجل الضحك على الذقون!
لكن كل هذا لم يمنع وجود ورطة في صفوف ما كان يسمى بالأكثرية النيابية أوإنفصام في الشخصية. فرئيس الأغلبية السابقة أصبح رئيساً للوزراء و”شرعن” كل ما كانت “جوقة ١٤آذار للفولكلور السياسي” تقف ضده. حتى “البند السادس” الذي يدعم المقاومة ضد إسرائيل وافق عليه الحريري لكنه سمح لجعجعات نيابيه من كتلته، زائد جعجع الأصلي نفسه، لتنفيس الإحتقان وحفظ ما تبقى من ماء وجه “١٤ آذار”. لقد شعرت بالشفقة على نواب “١٤ آذار” وهم يرون آمالهم وطموحاتهم وهيكلهم السياسي وأكاذيبهم التي كرروها طيلة الأربع السنوات الماضية، تتهاوى وتتحطم على صخرة الواقع! فهاهم اليوم بعد أن احرقوا الجسور مع سوريا وخلقوا وافتعلوا “جدار برلين” من العداء والحقد ضدها، تراهم يتحدثون لا عن عدم زيارة الحريري لسوريا أوعدمها بل عن توقيتها بعد أن حزم الحريري حقائبه ميمماً شطرالشام! لقد ظن هؤلاء “النوائب” أن الشعب اللبناني سوف يكون مسمراً على شاشة التليفزيون من أجل سماع مقامات بديع الزمان الهمذاني (البرلماني)، لكن خاب أملهم فهم في وادٍ والشعب المسكين في واد مشاكله الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي فإن الناس شبعوا مسكنات لغوية عقيمة ووعوداً إنتخابية خادعة (لكنهم يعيدون إنتخاب نفس “ممثلي الشعب” كل ٤ سنوات فلتحيا الديموقراطية الطائفية) بعد أن اصابت منهم سياسات الإفقار السنيورية مقتلاً معيشياً! ففئات الشعب أصبحت تفضّل على سوق عكاظ البرلماني هذا، حدثاً رياضياً مثل مباراة كرة القدم مثلاً لتنفض عنها همومها ولو أدت إلى أحداث شغب وإلى إسقاط المحرمات مثلاً بين شعبين شقيقين مثل مصر والجزائر لصالح العدو الذي جاء إلى القاهرة في حمأة العداوات بينهما يكاد يعرض وساطته وهذا أحقر دركٍ بلغه الزمان العربي الرديء. ثم ما هذه الحماسة الجديدة والشعور بالكرامة المستجدة من قبل الشارع العربي المزعوم بسبب “لعبة” رياضية في حين كانت إسرائيل تلعب بأرواحنا وأعراضنا في فلسطين ولبنان؟! ما سر نجاح التنويم المغناطيسي الذي تمارسه الأنظمة القمعية على شعوبها فتنتفض من أجل “كرة قدم” وتنفي “كرة العقل والوجدان والضمير”، ثم تتغاضى عن جرائم الأنظمة وانحرافاتها وتواطئها؟ ربما يكون دخول العقل العربي في “الكوما السياسية” قد بدأ مع حرب إسرائيل ضد لبنان عام ١٩٨٢عندما إستمر محبو “كرة القدم” يتفرجون على مباراة “كأس العالم” يومذاك بين إيطاليا والبرازيل غير مبالين بالقصف الوحشي الإسرائيلي، أو بإنتحار الشاعر خليل حاوي، في أول أيام الغزو، حتى لا ير الذل أمام عينيه بسقوط أول عاصمة عربية في براثن إلاحتلال! وبعد ذلك يأتي من يصوب على مجابهة إسرائيل!
لقد قلنا في مستهل المقال اننا اردنا فقط الكتابة عن مداولات المجلس النيابي، لكن التصريح الأخير لبطرك العروبة الأغر (ولا ننسى، ليوم واحدٍ فقط لا غير،) أمام وفد كلية الاعلام ثم أمام القصر الجمهوري والذي من خلاله يبدو أنه لا يريد أن يترك للصلح مطرحاً، اجبرنا على أن نفرد حيزاً له بسبب خطورته هذه المرة أيضاً. فالبطرك يحمل سلم المقاومة بالعرض هذه الأيام ويكاد لا يخلو له تصريح من دون أن يقنص على المقاومة. لكن الخطورة في تصريحه الأخير تكمن في إستخدامه نفس تعابير رئيس حكومة إسرائيل “النتن ياهو” أن المقاومة أصبحت جيش لبنان الفعلي. والخطورة تنبع أيضاً من بدأ ظهورتفسخ طائفي سببه تصويب بكركي الدائم على الطائفة الشيعية ولوبشكل غيرمباشر، مما إستدعى رداً (مهذباً) من الشيخ عبدالأمير قبلان (الذي نطق أخيراً وبق البحصة) بعد رد ابنه الشيخ أحمد قبلان وقبله رد المرجع السيد فضل الله المعروف بإنفتاحه وإعتداله وهذا دليل على أن استهدافات صفير جعلت الكيل يطفح!
يبدو أن البطرك لم يتأثر بلقائه، ولو قيد أنملة، مع الجنرال ميشال عون بل أنه حتى قلل من أهميته بعد أن كاد يغفر له خطيئة “وثيقة التفاهم” المشينة. وربما فكر بإعادة كسب عون إلى جانبه بعد أن خسر وليد جنبلاط، متبنياً في الوقت نفسه مواقف الزعيم الدرزي في مرحلة ما قبل “٧ أيار”. لكن الرياح السياسيه جرت عكس ما تشتهي السفن “البطريركية” والأجواء في البلد اليوم أجواء وفاق وتكاذب مشترك إلى أن تنجلي غيوم التشابك الاقليمي والدولي. وها هو ميشال عون يزور سوريا مستقلاً طائرة الرئاسة وسط حقد وغيرة ما تبقى من فلول “١٤ آذار”.
لقد بانت كل الوجوه وكل أعذار ايلي ماروني وايلي كيروزهي أعذارٌ واهية وواهمة كما كانت حجج نائلة معوض قبلهما واليوم النجم الجديد في إستديو فن البرلمان، نديم الجميل، حافظ تيار “بشير حيةٌ فينا”. فهؤلاء الذين يحبون لبنان حباً جماً مع جيشه لا يقدرون على اعطائنا إقتراحاً واحداً لوقف خروقات إسرائيل واستباحتها للبنان حتى في “عيد الإستقلال”، ما خلا معسول الكلام عن الدول الكبرى الرادعة لإسرائيل والجيش الوطني. انهم في مأزق حقيقي، وعليهم العودة إلى مقولة “قوة لبنان في ضعفه” أو محاربة إسرائيل حضارياً مثل تقديم “شاي فتفت” في “ثكنة مرجعيون”.
Leave a Reply