سمع أوليفر كيرني الكثير عن الخراب والدمار والمباني المهجورة في مدينة ديترويت، إلا أنه لم يكن ينتظر أبداً ما رآه: مومسات يجبن الشوارع صباحاً، مواقف سيارات مليئة بالقمامة يجتاحها العشب العشوائي، مبان ملطخة بالألوان النافرة لرسومات الغرافيتي، ورسالة موحدة مكتوبة على ألواح المدارس الخالية «لن أكتب في مبان فارغة».
التقط كيرني ألفي صورة في يوم واحد، وقال: «لم تشهد أي مدينة أميركية انهياراً بهذا الحجم»، مضيفا: «إنها من الأمور التي لا نشاهدها سوى مرة واحدة في حياتنا». وها هو قد رآها كلها، وبرفقة دليل.
فقد توجه الشاب برفقة والده من بريطانيا إلى ديترويت ليشارك في أحد الأعمال القليلة المزدهرة في المدينة اليوم، وهي «الجولات السياحية» برفقة دليل على المصانع والكنائس والمدارس المهجورة.
وبمساعدة جيسي ويلتر، اضطر الرجلان إلى «ممارسة الألعاب البهلوانية» والزحف تحت الأسقف المنهارة والدمار لإلقاء نظرة داخل محطة قطارات مقفلة منذ وقت طويل، أو الدخول من فجوة صغيرة للوصول إلى داخل ما كانت «ناطحة سحاب فاخرة» في الماضي، أو المغامرة بالمرور من تحت أبواب على وشك الانهيار لرؤية صالة حفلات منسية كان فريق الـ«هو» الشهير قدم فيها الحفل الغنائي الأول له في الولايات المتحدة.
«في ديترويت، بإمكاننا حقاً أن نلمس التاريخ»، يقول كيرني، مقارناً الوضع مع «أوروبا التي عندما تتحول فيها الأبنية إلى خراب، يتم هدمها وإزالتها بسرعة». ولكن الهدم والإزالة أمران مستبعدان تماماً في ديترويت. فقد أحصي 78 ألف مبنى فارغ، فيما يكلف هدم المبنى الواحد ثمانية آلاف دولار، وهو مبلغ لا تملك البلدية المفلسة الإمكانية لدفعه.
ووفقاً للبلدية نفسها، فإن نسبة 85 بالمئة من مساحة ديترويت التي تبلغ 370 كيلومترا مربعا، شهدت «انخفاضاً في عدد السكان» خلال السنوات العشر الأخيرة، فيما لم تأت محاولة إقناع المستثمرين بشراء مبان تجارية وإعادة ترميمها بنتائج مرضية.
وهكذا، فإنّ مشروع تحويل الصرح الضخم لـ«محطة ميشيغين المركزية للقطارات» الذي يعود تاريخ بنائه إلى العام 1912، إلى كازينو، أو جعله مقراً للشرطة، باء بالفشل، وبقيت المحطة «مدينة أشباح» منذ العام 1988.
ويتهافت المصورون الفوتوغرافيون منذ مدة إلى ديترويت لالتقاط صور «الانهيار». حتى أن مصورَين فرنسيَّين خصصا كتاب صور حول الموضوع يحمل بنسخته الانكليزية عنوان: «خراب ديترويت»، فيما يحمل بنسخته الفرنسية عنوان: «ديترويت: ما تبقى من الحلم الأميركي».
ومنذ أن أعلنت أكبر مدن ولاية ميشيغن إفلاسها في شهر تموز (يوليو) الماضي، أفادت فنادقها بأنها شهدت إقبالاً كثيفاً للزائرين المهتمين بمشاهدة «أطلال» المدينة.
ويقول «الدليل السياحي» جيسي ويلتر إنه قام بشراء باص صغير لتلبية متطلبات «النزعة السياحية» المتزايدة، مضيفاً انه رأى أن باستطاعته أن يعمل دليلاً لمن يريد رؤية المباني الفارغة و«السهر على أمنهم» في المدينة التي تعرف بارتفاع نسبة الجريمة فيها.
وقام ويلتر بأولى جولاته كدليل في نهاية العام 2011، وهي السنة نفسها التي انطلق فيها هذا النوع من السياحة في ديترويت بشكل ملحوظ. ويدفع الزبائن مبلغ 45 دولارا في مقابل جولة تستمر ثلاث ساعات يقومون فيها بزيارة المنشآت الأكثر شهرة في المدينة، المهملة حالياً.
ويجيد ويلتر التسلل إلى جميع المباني المغلقة أمام العامة. ويعرف جيداً تفادي الأحياء التي تجوبها «عصابات» الكلاب المشردة. كما أنه يحفظ عن ظهر قلب كل الكنائس في المدينة، وهو أَمَّن لثنائي تَجَوّلَ معهما كنيسة مهجورة ليتزوجا فيها.
ويدخل الرجل بعض الأماكن من دون علم السلطات أو «بالتواطؤ معها». فالدخول إلى مدرسة مهجورة مثلاً يعتبر مخالفة تستوجب دفع غرامة مقدارها 225 دولاراً. وتسمح الشرطة المحلية للدليل بدخول مبان أخرى، وهو يقول إنه «لا يخشى الشرطة أبداً التي تقلص مفعولها في هذه المدينة الفقيرة»، مضيفاً انه «يخاف من الأشخاص الذين يجمعون القمامة ومن المشردين وكل من بإمكانه أن يقوم بالاعتداء على من يحمل آلة تصوير في يده». ولهذا السبب، فإن ويلتر يبدأ جولاته عموماً عند الساعة السابعة صباحاً، وهو أفضل الأوقات.
وغالباً ما ينظر السكان المحليون إلى الأشخاص الذين يأتون لتأمل «تفكك» مدينتهم بعين «غاضبة»، بينما يفضلون أن يقوم السياح بالتقاط «الناحية الإيجابية» للأزمة، كتحويل عدد من الحقول التي هجرها أصحابها من قبل المستثمرين الزراعيين إلى حدائق عامة.
حتى أن بعضهم يأخذ على ويلتر تحديداً، وهم كتبوا رسالة له على أحد جدران «كنيسة سانت آنييس»، «عد إلى منزلك جيسي، نحن نكرهك ونكره جولاتك السياحية».
مدينة غاري، في ولاية إنديانا، هي الأخرى مثقلة بالـ«خراب»، ولكنها عرفت كيف تستثمر تدفق المصورين الذين يتهافتون على مبانيها المهجورة، وفرضت عليهم رسماً مالياً مقابل الحصول على إذن تصوير. فهل تحذو ديترويت حذوها وتعمل على استغلال «السياحة الجديدة» أم تجهد لإيقافها؟
Leave a Reply