إزالة “الغموض” مع الكبار .. وانتهاج “الوضوح” مع الصغار
ثمة اكثر من باب يعمل الرئيس الاميركي باراك اوباما على فتحه ودوخول التاريخ عبره. لم يكن مشروعه لاصلاح نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة واصراره على انتزاع موافقة الكونغرس عليه سوى احد تلك الابواب التي لم يعد بمقدور معارضيه من النخب اليمينية التقليدية سدّه.
ويكاد الرئيس اوباما ينفرد عن اسلافه من الرؤساء الاميركيين في العمل على الجمع بين امجاد الانجازات الداخلية والانجازات الخارجية في خطى متتالية ومدروسة، بطيئة ولكنها ثابتة.
من يتذكر السطوة الرئاسية لبيل كلينتون ويستعيد محاولته الدؤوبة لاقرار مشروع الرعاية الصحية الوطنية الذي كان الشغل الشاغل لزوجته، وزيرة الخارجية الاميركية الحالية هيلاري كلينتون، قبل ان تنسيها فضيحة زوجها مع المتدربة في البيت الابيض مونيكا لوينسكي، الموضوع برمته، يعرف ان تلك المحاولة لم تخرج عن اطار الترويج الاعلامي لمحاسن المشروع ورفعه شعاراً وحسب في الحملتين الانتخابيتين. لكن اي عمل جدي لتحقيقه لم يتبلور خلال الفترتين الرئاسيتين للرئيس الاميركي الذي تميز عهده برخاء اقتصادي لا يزال ملايين الاميركيين العاطلين عن العمل حالياً يتذكرونه.
الرئيس اوباما وبعد اجتيازه لـ”عقبة” قانون الرعاية الصحية الشاملة والذي عطلته مصالح الشركات على مدى قرن من الزمن، ينتقل هذه الاونة الى الجبهة الخارجية ليقرع احد اكثر ابوابها تعقيداً وحساسية وهو الباب النووي.
يعلن الرئيس اوباما نيته التخلي عن مفهوم “الغموض النووي المدروس” الذي حكم العلاقات بين الشرق والغرب ابان الحرب الباردة. ويشكل هذا الاعلان الذي سيكون مادة دسمة لخصومه من المحافظين، المسمار الاخير في نعش الحرب الباردة التي القت اوزارها مع سقوط الامبراطورية السوفياتية اول تسعينات القرن الماضي.
قبل عام اعلن اوباما من براغ عن سياسة اميركية جديدة تهدف الى خفض الاسلحة النووية والعمل على اخلاء الكوكب منها.
لم يكن ذلك الاعلان مجرد اعلان نوايا. هذا ما يثبته الرئيس الاميركي عندما يعلن تخليه عن استراتيجية الغموض النووي والتأكيد ان ادارته لن تستخدم اسلحة نووية ضد اي دولة خاضعة لمعاهدة منع انتشار هذه الاسلحة، باستثناء حالة تعرض اميركا لضربة مدمرة، او من قبل دولة تنتمي الى النادي النووي “الرسمي”.
في تقرير “مراجعة الوضع النووي” الذي امر اوباما باعداده منذ وصوله الى سدة الرئاسة “ان التهديد الاكبر للولايات المتحدة والامن العالمي لم يعد التبادل النووي بين الدول بل الارهاب النووي على ايدي متطرفين عنيفين وانتشار الاسلحة النووية الى دول متزايدة..” يحل هذا التطور الدراماتيكي في السياسية النووية الاميركية مع توقيع اوباما مع القيادة الروسية على معهادة “ستارت-٢” التاريخية في العاصمة التشيكية براغ (الخميس الماضي).
يشير هذا التحول المفصلي في السياسة النووية الأميركية الى انتقاء الحاجة الى سياسة الردع النووي المتبادل التي حكمت العلاقة بين اميركا والغرب من جهة والاتحاد السوفياتي القديم (روسيا اليوم) التي تبدي انفتاحاً على الافكار الاميركية المعززة باغراءات وتطمينات، لم تبخل ادارة اوباما في تقديمها للقيادة الروسية، وابرزها قبل اشهر التخلي عن مشروع الدرع الصاروخية على الاراضي البولندية والتشيكية.
لكن ماذا يعني التخلي الأميركي عن استراتيجية الغموض النووي”؟ وهل يطوي هذا التخلي استمثار القوة النووية الاميركية بالمطلق في علاقتها مع اجزاء اخرى من العالم تشكل قاعدة مصالح حيوية للولايات المتحدة؟
الاجابة عن هذا السؤال ترد في “تقرير المراجعة” الذي حذر الدول التي لا تفي بتعهداتها الدولية لنظام منع الانتشار.
وحذر التقرير دولاً مثل ايران وكوريا الشمالية من انها قد تواجه “كل الخيارات” الأميركية بما فيها استخدام الاسلحة النووية. ويسمى التقرير ايران وكوريا الشمالية اربع مرات في متنه الذي يبلغ ٧٢ صفحة، مشدداً على خرق هاتين الدولتين لنظام منع انتشار الاسلحة النووية، ويتهمهما بتحدي توجيهات مجلس الامن وبالسعي لامتلاك قدرات صاروخية ومقاومة الجهود الدولية لحل الازمات التي تسببتا بها بالوسائل الدبلوماسية”.
نحن اذن، بإزاء سياسة نووية أميركية جديدة تقوم على مواجهة ما تدعوه الولايات المتحدة “الدول المارقة”، وتضعها امام خيارين لا ثالث لهما: اما الانصياع الى نظام منع انشار الاسلحة النووية (إسرائيل مستثناة!) او مواجهة عقوبات تبدأ اقتصادية وتنتهي عسكرية، ويلخصها وزير الدفاع الاميركي بعبارة “كل الخيارات مطروحة”. والترجمة العملية المحتملة لهذه السياسة وجدت تعبيراتها في عدد غير قليل من التقارير والمقالات التي سربت في الآونة الاخيرة معلومات فحواها ان الولايات المتحدة وربما بالتعاون مع اسرائيل، سوف تلجأ الى خيار استخدام السلاح النووي التكتيكي في اي هجوم على ايران اذا قررت الادارة الاميركية ان نظام العقوبات الاقتصادية لن يكون حاسماً في ثني ايران عن طموحاتها النووية، وهذا ما ألمح اليه الرئيس اوباما في احدث تصريحاته حول مشروع العقوبات الذي تنوي الولايات المتحدة وحلفاؤها طرحه امام مجلس الامن الدولي قريباً.
لقد انتهت الحرب الباردة بمفهومها التقليدي الذي ساد بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية وتشكل المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وعاش العالم احادية قطبية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وتربعت الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين على العرش الكوني دون منازع. لكن هذه الحقبة اخذت بالافول مع صعود نجم التنين الاقتصادي الصيني، والذي خاض ضد المعسكر الرأسمالي بقيادة أميركا “حرب نجوم” اقتصادية ناجعة ارغمت هذا المعسكر على التواضع وطرح المشاركة في ادارة شؤون العالم، وقادت ادارة الرئيس باراك اوباما هذا التحول بجرأة وبعيداً عن عقد العظمة والتفوق.
واذ يطرح الرئيس اوباما الشراكة الاقتصادية والامنية مع الخصمين التقليديين للغرب، الصين وروسيا، وتحاول ادارته تليين الموقف الصيني في مسألة العقوبات ضد ايران بعدما نجحت في زحزحة الاعتراض الروسي، تتجه الساحتان العربية والاسلامية الى مواجهة اخطار السياسة النووية الاميركية الجديدة التي لا تحمل اي غموض بشأن الرؤية الى مستقبل العلاقة مع منطقة بالغة الحساسية والتعقيد بالنسبة للمصالح الحيوية لاميركا والغرب. هذه السياسة تحمل الكثير من “الوضوح النووي المدروس” وتنبئ بحريق كبير يعم منطقتي الشرق الاوسط وشرق آسيا، اذا لم تسفر المساعي الدبلوماسية عن ثني ايران عن موقفها المتشدد في ما يخص ملفها النووي العالق مع الغرب.
اما المراهنة على افتراق اميركي-اسرائيلي حول سبل التعاطي مع الشأن الايراني، فلا يعدو كونه وهماً. ويخشى من ان “الشيطان النووي” الاميركي-الاسرائيلي المشترك هو احد التفاصيل المتفق حولها في ملف الخلاف الحالي بين حكومة نتنياهو وادارة الرئيس اوباما.
ومن ينظر الى المطالب العشرة التي تقدمت بها الادارة الاميركية من اسرائيل يدرك انها تهدف الى عزل الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي عن مؤثراته الاقليمية (الايرانية تحديداً) تمهيداً لتنفيذ رؤية “حل الدولتين” الذي لا تزال الحكومة الاسرائيلية تعيقه عبر استمرار سياسة توسيع الاستيطان، خصوصاً في القدس الشرقية المحتلة، مما يؤدي الى افراغ تلك الرؤية من مضامينها.
وما يُخشى منه ايضاً،هو ان ينطلق حل الخلاف بين الادارة الاميركية والحكومة الاسرائيلية من تنفيذ الرؤية الاسرائيلية القاضية بتوجيه ضربة عسكرية الى ايران بالاشتراك مع الحليف الاميركي وعلى ضوء تقارير صحفية (بريطانية وأميركية) تحدثت عن تخزين الجيش الاميركي لصواريخ وقنابل نووية تكتيكية في منطقة الخليج العربي وعلى الاراضي التركية (في قاعدة اتجرليك ومقاطعة اضنة)، وتقارير اخرى افادت بأن الولايات المتحدة ذهبت في تطميناتها للصين الى حدّ ارسال سفن محملة بمخزون نفطي عائم يكفي لاشهر، الى السواحل الصينية، لاقناع القيادة الصينية المتخوفة على صادرتها النفطية من ايران، اذا اقدمت الاخيرة على اغلاق مضيق هرمز أو أوقفت تلك الصادرات التي تعتمد الصين عليها بنسبة ٧٠ بالمئة.
وقد ارفقت هذه التطمينات بكلام سعودي صريح عن الاستعداد لتزويد الصين باحتياجاته النفطية اذا اتخذت موقف مؤيد للعقوبات ضد طهران.
الاسبوع القادم سيستضيف الرئيس اوباما في البيت الابيض “قمة التعاون النووي” لرؤساء اكثر من اربعين دولة في حدث غير مسبوق بالنسبة لرئيس اميركي منذ تأسيس الجمعية العامة للأمم المتحدة.
والرئيس اوباما سيقف امام المؤتمرين ممسكاً بانجاز تاريخي تمثل في التوقيع على معاهدة الحد من الاسلحة الاستراتيجية النووية (ستارت-٢) مع الرئيس الروسي ميدفيديف في براغ بتدبير تاريخي غير مسبوق ايضاً في ادارات ما بعد الحرب الكونية الثانية يتمثل بالتخلي عن “سياسة الغموض النووي” الاميركية، للاتجاه نحو تطبيق ما يطلق عليه الخبراء الاميركيون “تقرير المراجعة” الذي صدر قبل ايام “ردع الارهاب النووي” وهو الاسم الكودي لحرب ضد ايران، اغلب الظن انها لم تعد تنتظر سوى تسوية بعض “التفاصيل الصينية” والتوقيت الملائم.
Leave a Reply