لنتخيل السيناريو التالي: مجموعة من كبار خبراء التنقيب عن الثروة النفطية أعلنوا ان الساحل اللبناني الممتد من البترون شمالا الى رأس الناقورة جنوبا يختزن في أعماقه مجموعة هائلة من آبار النفط والغاز، وأن بالإمكان فورا الشروع بالعمل على استخراج هذا المخزون.
تبادر مجموعة من شركات النفط العالمية الكبرى الى تقديم عروضها وتتحول فنادق العاصمة اللبنانية الى مقر دائم لمندوبي هذه الشركات. ثم بعد أن يتم إبرام العقود، يبدأ العمل ويتحول الشاطئ اللبناني برمته إلى مرافئ لتصدير الثروة الى بلدان العالم الصناعية.
لنتجاوز مؤقتاً، في هذا السيناريو، الاختلاف اللبناني–اللبناني على تشكيل إدارة مصلحة الثروة النفطية والتجاذب حول عدد أعضائها وحصص الطوائف، وهو ما بدأنا نلمسه على صورة تحذيرات متبادلة بين الأطراف الطائفية، رغم أن الحديث عن هذه الثروة لايزال ضربا من التخمين الأقرب الى التبصير منه الى الحقيقة.
فالاستغلال السياسي بدأ مبكرا وبدا فجأة أن الطوائف وجدت مادة دسمة للاختلاف أين منها أسطوانة توطين الفلسطينيين وسلاح المقاومة وغيرها من القضايا الخلافية بين اللبنانيين التي تكفي لإبقاء مصير البلد الصغير معلقا الى أجيال قادمة.
مشكلة اللبنانيين العويصة والمستعصية أنهم دائبو البحث عما يفرقهم، لا عما يجمعهم. وهي على صلة بجيناتهم الطائفية المتوارثة جيلا بعد جيل، دون أن يتمكنوا من تحسين أنسالهم من الطائفية والعصبية الى العلمانية والانفتاح والتسامح، وكأنهم يعيشون على كوكب آخر ولا يجاريهم في سلوكهم الانقسامي وبدائيتهم السياسية سوى الجماعات الصومالية التي حولت بلادها الى دولة فاشلة.
المتفحص في المشهد اللبناني بواقعه الراهن، وما يعتريه من تشرذم وانقسامات عمودية وأفقية وضيق في المساحات المشتركة التي يلتقي فوقها اللبنانيون، يخشى على لبنان من تحوله الى دولة نفطية بين عشية وضحاها. حيث يبدو هذا الاحتمال في ظل الود المفقود بين مكوناته مجلبة لمزيد من الحروب الداخلية وتكاثر دويلات الزواريب والأحياء بالقرب من الآبار الموعودة.
في المرويات الشعبية أن اللبنانيين اختلفوا على “ظل الحمار” وتطوعوا منذ ذلك الحين لخوض معارك الآخرين على أرضهم حتى باتت هذه الأرض تحتكر تسمية “الأرض الأكثر خصوبة” لتنمية الصراعات ورعايتها بدمائهم وأرزاقهم ومصائر أجيالهم، وهي “على قلوبهم مثل السمن والعسل” وفق التعبير الشعبي اللبناني.
خاض اللبنانيون حربا أهلية دامت 15 سنة متواصلة وفقدت دولتهم المركزية صفتها ضعف هذه المدة، ولم تنته حربهم الأهلية الا لتبدأ حروب من نوع آخر عادوا وتبرعوا ليكونوا أدوات لها.
في كل مناطق العالم تنتهي الحروب الداخلية بمصالحات واعترافات متبادلة ويجري التأسيس للسلام الداخلي بناء عليها، الا في لبنان حيث بقيت جروح الحرب مفتوحة ومشاعر الضحايا متأججة بروح الانتقام، فيما انتقل أمراء الحرب من الشارع الى مؤسسات الدولة وتابعوا مسيرة تخريبهم لها بوسائل سياسية، تخللتها محطات دموية كان من شأنها العودة بهم الى أتون الحرب الأهلية لولا المبادرة الى لجمهم من قبل الأطراف الاقليمية والدولية التي لم تقرر بعد، اللحظة المناسبة التي يجب على اللبنانيين فيها اعادة الانقضاض بعضهم على البعض الآخر.
فهل يكون حديث النفط والغاز مقدمة لعودة اللعنة الى تلك الأرض وعودة أهلها الى الاحتراب؟
ما رأيناه وسمعناه حتى الآن لا يبشر بالخير، وربما “ارتقى” السجال قريبا الى الحديث عن “النفط الشيعي” و”الغاز السني” و”النفط الماروني”. واذا صدقت روايات الثروة النفطية، فقد يتحول الشاطئ اللبناني الجميل الى مرافئ لبواخر تشحن النفط وأخرى تفرغ السلاح المدفوعة أثمانه بأموال الثروة الوطنية المكتشفة. وسندخل مجددا في نزاعات حدودية بحرية مع العدو والشقيق والصديق. ومن يدري، فقد يتوحد القبارصة الأتراك واليونانيون في جزيرتهم الجارة لنا ويقومون بغزونا للحصول على حصتهم من ثروة المتوسط!
والحال هذه، واللبنانيون على ما هم عليه، ترعى بين كياناتهم غزلان الخلافات ليس على “ظل الحمار” هذه المرة، أو على “وجه لبنان” ووظيفته ودوره، وحياده وتحييده، بل على ما يسفه كل هذه المواد المستهلكة عبر العقود.. على ثروة نفطية تقفز بنا الى مصاف الدول المصدرة للنفط. فنحتل مقعدا في منظمة الأوبك لكننا حتماً سنتقاتل على طائفة مندوبنا فيها.
أعوذ بالله من شر النفط والغاز!
يا جماعة، يكفينا ما فينا!
Leave a Reply