تشهد مصر وبعض البلدان العربية جملة أنشطة فكرية وثقافية لمناسبة الذكرى المئوية لميلاد جمال عبد الناصر
(15–1–2018)، لكن الغالبية العظمى من العرب اليوم لم تعاصر حقبة ناصر التي امتدّت على مدار عقديْ الخمسينات والستّينات من القرن الماضي. ولعلّ الشريحة الأهم في المجتمع المصري المعنيّة الآن بتجربة ناصر هي هذه الأعداد الكبيرة من الشباب المصريين الذين ولدوا بعد وفاة جمال عبد الناصر في العام 1970. لذلك، فمن المهمّ جداً لشباب مصر اليوم الاستفادة من الخلاصات الفكرية والسياسية التي أفرزتها تجربة ناصر طيلة 18 سنة من حدوثها.
فالقيادة الناصرية لثورة 23 يوليو عام 1952 طرحت مجموعة أهدافٍ فكرية عامّة وعدداً من الغايات الإستراتيجية المحدّدة، إضافةً إلى جملة مبادئ حول أساليب العمل الممكنة لخدمة هذه الغايات الإستراتيجية والأهداف الفكرية العامّة. وقد ظهرت هذه الأمور الفكرية والإستراتيجية في أكثر من فترة خلال مراحل تطوّر الثورة، لكن نضوجها وتكاملها ظهر واضحاً في السنوات الثلاث الأخيرة من حياة عبد الناصر، أي ما بين عاميْ 1967 و1970.
واستناداً إلى مجموعة خطب عبد الناصر، وإلى نصوص «الميثاق الوطني» و”تقرير الميثاق» (صدرا في العام 1962)، يمكن تلخيص الأبعاد الفكرية للتجربة الناصرية بما يلي:
– رفض العنف الدموي كوسيلةٍ للتغيير الاجتماعي والسياسي في الوطن أو في العمل الوحدوي العربي.
– الدعوة إلى الحرّية، بمفهومها الشامل لحرّية الوطن ولحرّية المواطن، وبأنّ المواطنة الحرّة لا تتحقّق في بلدٍ مستعبَد أو محتَل أو مسيطَر عليه من الخارج. كذلك، فإنّ التحرّر من الاحتلال لا يكفي دون ضمانات الحرّية للمواطن، وهي تكون على وجهين: الوجه السياسي: الذي يتطلّب بناء مجتمعٍ ديمقراطي سليم تتحقّق فيه المشاركة الشعبية الحقيقية في الحكم، وتتوفّر فيه حرّية الفكر والمعتقد والتعبير، وتسود فيه الرقابة الشعبية وسلطة القضاء. أمّا الوجه الاجتماعي: فيتطلّب بناء عدالةٍ اجتماعيةٍ تقوم على تعزيز الإنتاج الوطني ودور القطاع العام وتوفير فرص العمل وكسر احتكار التعليم والاقتصاد والتجارة.
– المساواة بين جميع المواطنين بغضّ النظر عن خصوصياتهم الدينية أو العرقية، والعمل لتعزيز الوحدة الوطنية الشعبية التي ينهار المجتمع بغيابها، والتي هي ركيزة أساسية لتحقّق الحرّية السياسية والعدالة الاجتماعية والتحرّر من الهيمنة الخارجية.
– اعتماد سياسة عدم الانحياز على المستوى الدولي ورفض الارتباط بأحلافٍ عسكرية أجنبية تقيّد الوطن ولا تحميه.
– مفهوم الانتماء المتعدّد للوطن ضمن الهويّة الواحدة له. فمصر تنتمي إلى دوائرَ أفريقية وإسلامية ومتوسطيّة، لكنَّ مصر –مثلها مثل أيّ بلدٍ عربيٍّ آخر– ذات هويّة عربية واحدة وتشترك في الانتماء مع سائر البلاد العربية الأخرى إلى أمّةٍ عربيةٍ ذات ثقافةٍ واحدة ومضمونٍ حضاريٍّ مشترَك.
– الاستناد إلى العمق الحضاري الديني لمصر وللأمّة العربية انطلاقاً من الإيمان بالله ورسله ورسالاته السماوية، والتأكيد على أهمّية دور الدين في بناء مجتمعٍ قائم على القيم والمبادئ الروحية والأخلاقية، لكن مع عدم زجّ المسألة الدينية في اختيار الحكومات والحاكمين ومهام الدولة وسلطاتها.
– القناعة بأنّ الطريق إلى التكامل العربي أو الاتّحاد بين البلدان العربية لا يتحقّق من خلال الفرض أو القوّة، بل (كما قال ناصر) «إنّ الإجماع العربي في كلّ بلدٍ عربي على الوحدة هو الطريق إلى الوحدة».. وقال ناصر في «الميثاق الوطني» أيضاً: «طريق الوحدة هو الدعوة الجماهيرية.. ثمّ العمل السياسي من أجل تقريب يوم هذه الوحدة، ثمّ الإجماع على قبولها تتويجاً للدعوة وللعمل معاً». وقال أيضاً في الميثاق: «إنّ اشتراط الدعوة السلمية واشتراط الإجماع الشعبي ليس مجرّد تمسّك بأسلوبٍ مثالي في العمل الوطني، وإنّما هو فوق ذلك، ومعه، ضرورة لازمة للحفاظ على الوحدة الوطنية للشعوب العربية».
***
أمّا على صعيد مواجهة التحدّي الإسرائيلي، فقد وضعت تجربة عبد الناصر منهاجاً عربياً ومصرياً واضحاً لهذه المواجهة، خاصّةً بعد حرب عام 67، يقوم على:
– بناء جبهةٍ داخليةٍ متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو إثنية ولا تلهيها معارك فئوية ثانوية عن المعركة الرئيسة ضدّ العدوّ الصهيوني، ومن خلال إعدادٍ للوطن عسكرياً واقتصادياً بشكلٍ يتناسب ومستلزمات الصراع المفتوح مع العدوّ.
– وضع أهدافٍ سياسيةٍ مرحلية لا تقبل التنازلات أو التفريط بحقوق الوطن والأمَّة معاً، ورفض الحلول المنفردة أو غير العادلة أو غير الشاملة لكلّ الجبهات العربية مع إسرائيل.
– العمل وفْقَ مقولة «ما أُخِذ بالقوّة لا يُسترّدّ بغير القوّة» وأنّ العمل في الساحات الدبلوماسية الدولية لا يجب أن يعيق الاستعدادات الكاملة لحربٍ عسكريةٍ تحرّر الأرض وتعيد الحقَّ المغتصَب.
– وقف الصراعات العربية/العربية، وبناء تضامنٍ عربي فعّال يضع الخطوط الحُمر لمنع انزلاق أيّ طرفٍ عربي في تسويةٍ ناقصةٍ ومنفردة، كما يؤمّن هذا التضامن العربي الدعم السياسي والمالي والعسكري اللازم في معارك المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي.
***
هذه باختصار مجموعة خلاصات فكرية وسياسية للتجربة الناصرية، خاصّة في حقبة نضوجها بعد حرب عام 1967.
مصر الآن، والمنطقة العربية كلّها، بحاجة ماسّة إلى هذه الخلاصات الفكرية والمواقف الإستراتيجية لتشكّل بالنسبة لها دليلاً مهمّاً لحركتها الممتلئة حالياً بنبض الشارع وروح الشباب وعنفوانه.
جمال عبد الناصر قال في الباب الأوّل من «الميثاق الوطني»، الذي قدّمه في أيار (مايو) 1962 للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية:
«إنّ قوّة الإرادة الثورية لدى الشعب المصري تظهر في أبعادها الحقيقية الهائلة إذا ما ذكرنا أنّ هذا الشعب البطل بدأ زحفه الثوري من غير تنظيم ثوري سياسي يواجه مشاكل المعركة، كذلك فإنّ هذا الزحف الثوري بدأ من غير نظريةٍ كاملة للتغيير الثوري. إنّ إرادة الثورة في تلك الظروف الحافلة لم تكن تملك من دليلٍ للعمل غير المبادئ الستّة المشهورة».
وما قاله جمال عبد الناصر عن كيف أنّ الثورة بدأت من دون «تنظيم سياسي ثوري» ودون «نظرية سياسية ثورية»، يوجِد تفسيراً لما وصلت إليه مصر والأمَّة العربية بعد وفاة جمال عبد الناصر، حيث فقدت الجماهير العربية اتصالها مع القائد بوفاته، ولم تكن هناك بعده أداة سياسية سليمة تحفظ للجماهير دورها السليم في العمل والرقابة والتغيير. أيضاً، مع غياب ناصر/القيادة، وغياب البناء السياسي السليم، أصبح سهلاً الانحراف عن المبادئ، والتنازل عن المنطلقات، والتراجع عن الأهداف.
ففي كل حركة تغيير هناك حاجة لعناصر ثلاثة متلازمة من المهمّ تحديدها وتوفّرها معاً: القيادة، الأهداف، والأسلوب. فلا يمكن لأي غاية أو هدف أن يتحقّقا بمعزل عن هذا التّلازم بين الركائز الثلاث. فتوفّر الأسلوب السليم لحركات التغيير الشبابية التي حصلت في مصر وتونس قبل سبع سنوات، كان بحاجة أيضاً لضمانات فكرية ومؤسّساتية تحقّق الأهداف وتمنع التشويه والانحراف والاستغلال.
الذكرى المئوية لميلاد جمال عبد الناصر هي مناسبة هامّة الآن، بل هي مسؤوليّةٌ واجبة، للجيل العربي الجديد المعاصر ولشباب مصر العربية، أن يدرس ماضي أوطانه وأمّته بموضوعيّة وتجرّد، وأن يستخلص الدروس والعبر لبناء مستقبل جديد أفضل له وللأجيال القادمة.
Leave a Reply