حملتُ نفسي بتثاقل تاركاً طاولة «البوكر» متوجهاً الى الحمام لاغسلَ وجهي بعد ساعات طويلة متواصلة من المقامرة تعدت خسارتي حينها نحوَ عشرة الاف دولار. احسست انني ارى وجه شخص آخر وانا انظر بتمعن وارتخاء في المرآة، ولا ادري كم من الوقت مضى وانا احملق في المرآة المهشمة والتي طار
نصفـُها مائلاً الى الجانب الايسر من الحائط وبدت لي فتحة أنفي اليمنى في جزء والفتحة الآخرى في الجزء المهشم الآخر على اقصى اليسار من المرآة.أرعبتني «خلقتي» كما عكستها مرآة حمام الكازينو الذي ادخله لأول مرة في حياتي… وتساءلت في غباء واضح لماذا لا يتم شراء مرآة جديدة لهذا الكازينو الذي يُعدّ واحداً من أهم ثلاثة ملاهي للقمار في ديترويت تتعدى مداخيـُلها السنوية ملياراتِ الدولارات.تحسست محفظتي وسحبت منها مجموعة بطاقات الأئتمان التي لم استخدم اية منها منذ سنوات إلاّ هذه الليلة. خرجت بتراخٍ الى الصالة الخارجية، وقفت في صف طويل امام فرع أحد البنوك العاملة داخل الملهى طيلة ساعات النهار والليل. جاء دوري، ناولتُ موظفة البنك بطاقتي الصفراء، وطلبت منها صرفِ قيمةِ ما تبقى فيها من دولارات، ناولتني ثمانية الاف دولار واسرعت مرة اخرى الى طاولة «البوكر» التي كانت مكتظة بالمقامرين أغلبيتهم من العرب والكلدان… وقفت في انتظار افلاس احد الجالسين على الطاولة لاحتل مكانة… التفتُ الى الطاولةِ المجاورة ولم اصدق ما رأيت… هل يعقل ان يكون هذا المسؤولُ العربيُ الكبير مقامراً .. وفي ديترويت، ربما كان شخصاً آخر شبيها له… أقتربت من الطاولة محاولاً التأكد من ملامحه عن كثب، بدا لي وجههه شاحباً.. اسوداً، كانت أمامَه رزمة من الدولارات مخلوطة بالريالات السعودية… والدنانير الكويتية والعملة الخليجية المتعددة…! تفحصت ملامحه مرة أخرى… كانت اُذناه متدليتين بشكل غريب وأنفه ظهر وكأنه مثبتُ مكان أحدِ حاجبيه، لم استطع الاقتراب من الشخص الواقف خلفه.. أنني اعرفه، اراه دائماً في التلفزيون وفي الصحف.. دائماً بجانب عمرو موسى… انه هشام… لم اتذكر اسمه الاخير.. هل اجرؤ على لفت انتباه هشام الى ذقن معلمه «عمرو موسى»؟ الذي يظهر انه لم يزينها منذ ايام.. او انه حلق جانباً واحداً من وجهه وترك الاخر. تمنيت لو اني احضرت معي آلة التصوير لالتقط صورة لي مع عمرو موسى جالساً بجانبه على طاولة..! ..! وانشرها في «صدى الوطن» وأباهي واتباهى بها أمام عائلتي واصدقائي..!كنت مستغرقاً في استرجاع لقائي مع موسى قبل.. ربما سنة او سنتين.. اللقاء الذي ضمَ مجموعة من قيادي الجالية وكان نجمُ اللقاء كالعادة عماد حمد، رئيس اللجنة الأميركية العربية لمكافحة التمييز..! لم اعرف رجلاً يعكس وجهه الفشل والخسارة كوجه عمرو موسى..! تأكدت من ذلك الان بعد ان رأيته على حقيقته..لا ادري كيف أختفت صورته من أمامي.. أخذ مكانه رجلُ ضرير ذو كرش ممتد على نصف الطاولة، بدا وكأنه مشرد.. ما الذي جاء بهذا الرجل غريب الشكل الى هذا المكان..؟ وكيف يمكن له ان يشارك في لعبة «البوكر» وهو لا يرى..؟ ولكن ما الذي شدني انا الى هنا..؟ سألت نفسي.. ما هذا الغباء الذي يسيطر عَلي.. كيف خسرت هذه المبالغ، بأي حالة ساواجه زوجتي وبناتي حين اعود الى البيت..؟ هل اعود ام احاولُ تعويضَ ماخسرُته… ما الاسئلة التي سأوجهها في الاسبوع القادم لضيوفي من الاختصاصيين الذي يحذرون المستعمين من افراد الجالية من مساوىء القمار… كيف لي أن انافق واتجرأ على ارشاد الناس وتوعيتهم من القمار وعواقبه ومساوئة وانا غارقُ لاذني في الخسارة..؟ طيلة الاسبوع الماضي كنت أناقش موضوعَ المقامرة مع اختصاصين وافراد من الجالية، لتهيئة نفسي وتخصيص حلقة اذاعية جديدة عن مساؤى القمار، وكيف تقود هذه العادة الى دمار البيوت. في لحظة قفز امامي وجه ذاك الرجل الذي أنهى حياته بعدَ ليلة عاصفة طويلة من الخسارات المتواصلة… لم يقوَ على التحمل.. فأنتحر…! وآخرُ هجرته زوجته وتشرد اولاده بعد ان يأسوا من محاولات أقناعه بالتخلي عن عادة المقامرة. ذرفتُ دمعة صامتة حزينة وأنا اتخيل وجه تلك المرأة الرائعة التي عاشت قصة حب لزوجها لاكثر من عشرين عاماً… وكان عليها الخيار بين الاستمرار في جحيمِ العيش مع زوج مدمن كرهِت سلوكه واستعصى اصلاحه وبين التضحية والرحيل… فـَرحلت مختارة دفن هذه السنوات الطويلة من الذكريات الجميلة… أشار مسؤول طاولة البوكر عليّ بالجلوس في حين سمع رنين ماكنة (الفراطة، Slot Machine) مدوياً ومعلناً ربح أحدى المقامرات في زاوية قريبة من مكاننا، في وقت ايقظني رنين جرس منبه الساعة معلناً بداية يوم جديد.. ومختتماً حلماً.. او كابوساً او شبحاً مزعجاً لمغامرة مقامرة….. لم تحدث إلاّ في المنام..!
Leave a Reply