أهو «ربيعٌ عربيٌّ» فعلاً ما يعيش العرب الآن «نسماته»، أم هو انتقالٌ من زمن الاستبداد والفساد إلى زمن التبعية والحروب الأهلية؟! كلاهما تعبير عن زمن انحطاطٍ وتخلّف واستنساخ لماضٍ قريبٍ وبعيد عاشته البلاد العربية على مدار قرون ماضية. فمنذ انتهاء «الزمن الراشدي» قبل 14 قرناً لا يتغيّر الحكم ويحدث التغيير إلا بفعل القوّة العسكرية. ولا فرق هنا تاريخياً بين عربي وأعجمي، فهكذا أيضاً كان تاريخ بلاد فارس وتاريخ بني عثمان حيث وصل الجيش الانكشاري العثماني إلى سلطة «الخلافة» بحكم القوة العسكرية، وحكَم العرب لأربعة قرون انتهت بالثورة العربية المسلحة للشريف حسين، المدعومة من الغرب!. وكل هذه القوى الأجنبية تفعل فعلها الآن في أرجاء الأمّة العربية!.
نعم تعدّدت الأسباب، لكن النتيجة واحدة. نعم أنظمة الاستبداد أو الفساد، أو الاثنان معاً، مسؤولةٌ عن تردّي أحوال الأوطان العربية وعن تبرير التدخّل الأجنبي بمصائرها، لكن هل سيغير ذلك الآن من النتائج؟! أليس الاستنجاد بالأجنبي لتغيير حكوماتٍ وأنظمة هو تكرارٌ لما حدث قبل قرنٍ من الزمن أيام «الثوة العربية الكبرى»، حيث لم تقم «الدولة العربية الواحدة» التي وعدت بريطانيا بدعمها، بل قامت في المشرق «دولة إسرائيل» التي وعد بها الوزير البريطاني بلفور، فحنث عهده مع العرب ونفّذ وعده مع المنظمة الصهيونية. وبدلاً من “الدولة العربية الموحّدة” جرى توزيع البلاد العربية وتقسيمها كمناطق نفوذٍ وانتداب لدول أوروبا الكبرى.
وحينما جرت أول محاولة فعلية لتحطيم اتفاقيات (سايكس- بيكو) بإقامة «جمهورية عربية متحدة» تربط جناحي الأمّة في المشرق والمغرب، من خلال وحدة مصر وسوريا في 22/2/1958، انقضّت كل القوى الأجنبية عليها لوأدها في المهد، فلم تعش أكثر من ثلاث سنوات، وكان الانفصال في خريف العام 1961 بداية لحقبة جديدة من الصراعات العربية ومن السعي الأجنبي-الإسرائيلي المشترك لمنع مصر نهائياً من تكرار تجربة محمد علي في القرن التاسع عشر، وجمال عبد الناصر في القرن العشرين، من توحيد مصر مع بلاد الشام. فهذا التوحيد كان تاريخياً وراء قدرة صلاح الدين الأيوبي على هزيمة جيوش «الإفرنج» وتحرير القدس فيما عُرف بحقبة «الحروب الصليبة».
كم هو فارقٌ كبير بين ما كان عليه حال العرب قبل 55 عاماً، وحال مصر وسوريا تحديداً، وبين ما هو واقع حال اليوم. بين «شتاء» نهاية الخمسينات من القرن الماضي وبين «ربيع» القرن الحالي. بين ما كانت عليه الأمّة العربية من تضامن ووعي وآمال، وما هي عليه الآن من تخبّطٍ سياسي وأمني وصراعات داخلية ومخاوف على مصير الأوطان نفسها.
العرب الذين عاشوا في القرن الماضي وعاصروا تلك الفترة الزمنية الغابرة، أو بعض آثارها، يدركون هذا الفارق الكبير بين ما كان عليه العرب وما وصلوا الآن إليه. والحديث الآن عن تجربة الوحدة المصرية-السورية ليس هو بحنين عاطفي لمرحلةٍ ولّت ولن تعود، بل هو لمواجهة من يُغرق الأمَّة الآن في خلافاتٍ وصراعاتٍ ليس الهدف منها نهضة الأوطان وتقدمها، بل تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، فتكون «الدولة اليهودية» قائدة وراعية لدويلات دينية ومذهبية منشودة في المنطقة كلّها!.
هو «زمنٌ إسرائيلي» نعيشه الآن، بعد الانقلاب الذي حدث على «زمن القومية العربية»، حين كانت مصر في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي طليعة له. فاليوم تشهد مصر وكل بلاد العرب «حوادث» و«أحاديث» طائفية ومذهبية وإثنية لتفتيت الأوطان نفسها، لا الهويّة العربية وحدها.
هو «زمنٌ إسرائيلي» الآن على مستوى أولويّة الصراعات في المنطقة، إذ جرى تهميش «الصراع العربي-الصهيوني»، وتنشيط الصراعات الأخرى في عموم «الشرق الأوسط»، بحيث ضاعت معايير «الصديق» و«العدو» وطنياً وإقليمياً ودولياً، وأصبح «المقاومُ» مُداناً، والمساندُ للعدوِّ «مرجعيةً إنسانية» مطلوبٌ تدخّلها العسكري لحلِّ أزماتٍ داخلية!.
اليوم، نجد واقعاً عربياً مغايراً لما كانت عليه مصر وسوريا والعرب قبل أكثر من خمسين عاماً.. اليوم هوت «الهويّة العربية والوطنية» لصالح مستوى «الانقسامات الوطنية الداخلية»، اليوم تزداد الصراعات العربية بينما تستمر محاولات «التطبيع» والتفاوض مع إسرائيل!
ألم يبدأ عام «ربيع العرب» بانفصال جنوب السودان (بتحريض من إسرائيل ودول غربية) وقبول دولته فوراً في الأمم المتحدة، دون المرور في الاعتراضات والمماطلات الحاصلة الآن حول مسألة الدولة الفلسطينية؟ ألم يؤدِّ احتلال العراق لتغيير نظام الحكم فيه إلى تقسيمه عملياً؟! ألم تكن أولى باكورات الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1978 بحجة تحجيم المقاومة هي إعلان «دولة جنوب لبنان الحر» بقيادة العميل الإسرائيلي سعد حداد؟! أوَليست إسرائيل حاضرةً الآن في أكثر من جبهة عربية مفتوحة على احتمالات الحروب الأهلية؟
صحيحٌ أنّ الانتفاضات الشعبية العربية قد حقّقت الكثير من الإيجابيات، لكنّها إيجابيات ما زالت محدودةً في المكان والنتائج. والردّ هنا لا يصحّ بالقول إنّها ثوراتٌ مولودة حديثاً، وهي بحاجةٍ لفترة من الوقت، فالمولود يعاني أصلاً من نقصٍ في قوّة المناعة، ومن صراعٍ على أبوّته، حيث تتصارع القوى السياسية التقليدية على حقّ الرعاية للمولود اليتيم، وبعض هذه القوى لا يأبه حتّى بمصير الطفل الثوري المولود طالما كان هو الضامن للوراثة من بعده!.
وصحيحٌ أنّه جرى كسر حاجز الخوف لدى شعوب المنطقة، لكن ما يجرى أيضاً في المنطقة هو محاولات كسر وتحطيم مقوّمات الوحدة الوطنية وتسهيل سقوط الكيانات، كما سقطت وتسقط أنظمة وحكومات، إذ لم تعد تميّز بعض قوى المعارضات العربية (عن قصدٍ أو عن غير قصد) بين مشروعية تغيير الأنظمة وبين محرّمات تفكيك الأوطان ووحدة شعوبها. وهذه المخاطر موجودة في كلّ المجتمعات العربية، إن كانت منتفضةً الآن أو مستقرّةً إلى حين.
الآن، يرى البعض في المنطقة العربية الحلَّ في العودة إلى «عصر الجاهلية» وصراعاتها القبلية، ويستهزئون بالحديث عن حقبتي «الخمسينات والستينات»، وعن «تجربة الوحدة المصرية-السورية».. وبعضٌ عربيٌّ آخر يرى «نموذجه» في الحل بعودة البلاد العربية إلى مرحلة النصف الأول من القرن العشرين، التي تميّزت بتحكّم وهيمنة الغرب على مصر والمشرق والمغرب! لكن ما يحدث الآن في البلاد العربية هو تأكيدٌ جديد على أهمّية إعادة صياغة مشروع وطني عربي شامل، تكون الديمقراطية والهوية العربية ورفض التدخل الأجنبي ونبذ أسلوب العنف في المجتمعات، بمثابة أركان أربعة متكاملة فيه بحيث لا يجوز الأخذ بواحدها دون الآخر، ففي ذلك ضمانات للحاضر والمستقبل، ولوحدة الشعوب والأوطان والأمّة معاً.
اللهمَّ ارحمْ شهداءَ هذه الأمَّة وضحايا حكوماتها ومعارضيها، من بشر وأوطان وتجارب تاريخية عربية ناصعة، واقصِ عن رحمتك من يسعوْن في الأرض العربية المباركة فتنةً وفساداً وتقسيماً، كائناً من كانوا: عرباً أم أجانب، حكاماً أم معارضين، كتّاباً أم إعلاميين أم متستّرين بغطاء دين…
Leave a Reply