بقلم: فاطمة الزين هاشم
في مكتبي إبّان اغترابي الأوّل عن الوطن، وأثناء الدوام الرسمي، رنّ جرسُ الهاتف، اجتاح قلبي الوجيف، كأنّه ينبّيء عن خبرٍ غير سارّ، حيث كنت أعلم أنّ والدتي ترقد في المستشفى، فإذا بأخي على الطرف الثاني يطلب منّي الحضور إلى لبنان فوراً، لأنّ والدتي تريد رؤيتي إذ ربّما تكون الأخيرة، عصفَ بي لحظتَها حزن شديد، ورميت من يدي الأوراق، وغامَ كلّ شيء من حولي، فأسرعتُ إلى مكتب الطيران، علّي أحصل على تذكرة سفر.
عند الساعة الثالثة عصراً في اليوم التالي، كنت على باب الغرفة التي ترقد فيها أمّي، كم غمرها الفرح عندما رأتني، فرفعتْ رأسها وعيناها نصف مفتوحتَيْن، إنحنيتُ قرب وجهها الجميل بعينيها السوداوَيْن المظلَّلَتيْن برموش طويلة حتّى وهي في ذلك العمر وتحت وطأة المرض، شاهدتُ الشعرَ الأبيض في صدغيها، لقد غزاها الشيب منذ أن تركتُها وسافرتُ.
كانت تقول لي دائماً (لن أدعه على بياضه، سأصبغه وأبدو أصغر منكِ) فتضحك بروحٍ مرحة شفّافة، وحنان لا مثيل له، يا للأمّهات الطيّبات، يردّدن مثل تلك العبارات الفكِهة ببراعة منسابة وعجيبة، قبّلتُ يديها الطاهرتين حين سبقتني دموعي وترقرقت على خدّيّ، ساعتها نظرتْ إليّ بحزنٍ كأنّها تعلم بأنّها لحظات الوداع، قالت جملةً واحدة فقط (أنتِ حنونة يا إبنتي فانتبهي لأختكِ من بعدي)، وأومأتْ لي بأن أنحني إليها فقبّلتني وجفناها بالكاد يتحرّكان، ثمّ أسلمت الروحَ لبارئها، فأسدلتُ جفنيها على غيابِ البريق في عينيها اللتين لطالما تابعتنا حرصاً.
كان ذلك اللقاء هو الأخير بيننا، ورحتُ أدور في دوّامة أفكاري، أحدّث نفسي..لقد آثرتِ الرحيلَ باكراً قبل أن نرتوي من فيضِ حنانكِ ونستكمل العيشَ تحت ظلالكِ الوارفة..لن ترحلي من قلبي وعقلي وضميري..أتذكّركِ في كلّ عودةٍ لي من سفري، عندما كنت تقتنين لي الثياب الجميلة وخاصةً ذوات اللون الأخضر، وتحتفظين بها لحين عودتي، وتصرّين على أن أرتديها أمامكِ فتردّدين (جعل الله أيّامكِ كلّها خضراء كهذا اللون)، أتذكّركِ وأنتِ تغرسين شتلات الورود في الأحواض الخزفيّة المنتشرة في كلّ زوايا البيت والمسطّرة في الباحة الخارجيّة، بذوقٍ رصين، وبتنسيقٍ أخّاذٍ ينعش أرواح الناظرين إليها، أتذكّرك وأنت تختارين الكلمات المناسبة التي لا يمكن استبدالها بسواها..حتّى أنّي أتمثّلكِ دائماً بقولِ الشاعر
الأمّ مدرسةٌ إذا أعدَدْتَها أعدَدَتْ شعباً طيّبَ الأعراقِ أتذكّركِ وأستعيد المَشاهد كلّما تقسو عليّ الحياة ولا أجد إلّا حضنك الدافيء الذي كان الملاذ الوحيد الذي أهرع إليه من همومي.
إنّني والحسرة تعتصرني، ووحش الفراق يطاردني، والشوق إلى مرآكِ يلهب فؤادي، كم تمنّيتُ أن أقدّم لكِ الورود في عيدِكِ يا أمّي، ولكنّ القدر شاء أن أضعَها على ضريحكِ المقدّس، إنّ ألأوراد لا تخطيء طريقها إليك.
Leave a Reply