لم نعد بحاجة إلى الكناية أو الاستعارة للحديث عن “جلد” الشعوب في أوطاننا العربية المحروسة بأنظمة قمعية ووحشية ظلت تختبئ خلف شعارات قومية ووطنية بداية، واسلامية لاحقا، لتبرير استمرار “ترويض” المواطنين ومواصلة “تعويدهم” على عبادة القائد بعد الله، أو ربما قبله.
المشهد الذي تناقلته وسائل الاعلام عن موقع “يوتيوب” والذي يظهر حيوانين بشريين من الشرطة السودانية وهما ينهالان جلدا بالسياط على فتاة ارتدت زيا “فاضحا” (بنطلون) في مخالفة لشريعة عمر البشير “الاسلامية” هو مشهد لا تقتصر ارتدادته العالمية (باعتبار أننا بتنا نعيش في قرية كونية وعمر البشير لا يدري) على التقزز والغثيان من هذا العرض الموغل في وحشيته ضد من أوصانا نبي الإسلام بهن في حديثه المأثور “رفقا بالقوارير” بل تتخطاه الى إلحاق الأذى بجوهر العقيدة الاسلامية التي لم يذكر قرآنها الكريم الجلد إلا في موضعين من سورة واحدة (النور) ويتعلق بعقاب جريمتي الزنا والقذف اللتين يصعب حتى إثبات إحداهما (الزنا).
وربما لا يعلم عمر البشير وجلاوزة “شريعته” بالفعل أن صرخات الفتاة السودانية الهستيرية وهي تتلوى ثم تنهار تحت ضربات السياط قبل أن تتمكن من النهوض، قد تصل إلى جميع أرجاء المعمورة. وهو قد لا يكون معنيا أصلا بـ”الرأي العام” العالمي، ولا بعدالة الكون طالما أنه مطلوب لها بسبب جرائم الإبادة المتهم نظامه بارتكابها في دارفور.
ولقد قرأت عن قانون الجلد في السودان ما يثير الضحك والبكاء في آن: ففي بلد لا توجد فيه مواقف لغسيل السيارات يجلد من يقدم على غسل سيارة في مكان غير مخصص لها! وقرأت أيضا أن هنالك أكثر من 40 ألف امرأة سودانية قدمن لمحاكم في إطار حملات النظام العام خلال عام واحد. واقترحت ناشطة سودانية في الدفاع عن حقوق المرأة عملية حسابية تفيد أنه إذا ما جلدت أي واحدة من هؤلاء النسوة 40 جلدة فسيكون الحاصل هو مليون و600 الف جلدة ألهبت أجساد النساء الغضة خلال عام واحد. يغري هذا الحساب بالزعم أن نظاما كهذا يكتسب شرعيته الاسلامية من جلد نساء الوطن.
العام الماضي طفت قضية جلد النساء على سطح الإعلام مع الصحفية لبنى حسين التي ارتدت بنطلونا لتحدي سلطة “الأمن الاجتماعي” وأدخلت السجن وصدر حكم بجلدها مئة جلدة لكنه لم ينفذ بسبب الحملة الاعلامية العالمية التي تضامنت معها فاقتصرت عقوبتها على غرامة مالية رفضت دفعها، فسددتها عنها نقابة الصحافة للملمة الموضوع.
وقد لا يكون تسريب شريط الفيديو بريئا في توقيت نشره والسودان على عتبة إجراء استفتاء حول حول بقاء أو انفصال جنوبه، لكن عدم براءة النشر لا تلغي وجود هذه الممارسات اللانسانية والمشينة بحق الدين الإسلامي وبحق السودان وبحق المرأة المسلمة التي يجري تحويلها إلى مختبر لتطبيق “تجارب الشريعة” على جسدها.
والحال أن قصة فتاة الفيديو التي سمع العالم استغاثاتها تحت وطأة السياط قد لا تكون سوى راس “جبل الجلد” الذي يطفو عليه نظام البشير وغيره من الأنظمة العربية والإسلامية التي تحكم شعوبها بالسياط وبدعوى نشر الفضيلة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما يمارس أركانها من “أمراء” ومسؤولين المحرمات بكل أشكالها على مدار الساعة، محميين بالسلطة والمال.
على أن جلد الشعوب بالعربية والإسلامية لا يقتصر على النساء، وهن الأقل انخراطا في العمل السياسي، فهنالك نماذج متنوعة من “الجلد” تبدأ بقمع الحريات وسلب لقمة العيش والكرامة ولا تنتهي بجلد كل المواطنين في نشرات الأخبار المخصصة لأنشطة القادة والزعماء استقبالا وتوديعا.
والجلد المعنوي قد لا يقل خطورة عن الجلد الجسدي، فهو مجلبة لأنواع مختلفة من الأمراض النفسية التي تكاد تحول البلدان العربية بمعظمها الى مصحات لا يتلقى “نزلاؤها” الرعاية اللازمة.
وهذا ما أدى إلى نشوء ظاهرة “النزوح الانتحاري” من أكثر من بلد عربي، لمجموعات من المهاجرين تحشر أنفسها في قوارب متهالكة وتغامر بركوب البحر، فنرى أن من يصل منهم الى شواطئ “الأمان” اقل ممن لا يكملون الرحلة ويقضون غرقا.
ثمة شعوب بأكملها تجلد وتستغيث لكن صراخها لم يصلنا بعد.
نحن بحاجة الى “ويكيليكس عربي” لتسريب فضائح الحكام واستبدادهم بشعوبهم. أكثر من ذلك ربما نحن بحاجة الى جلاد لإلهاب ظهور المستبدين بنعال المظلومين.
Leave a Reply