كأننا أمام «11 أيلول» جديد، إلى درجة أن خطاب المرشح الجمهوري للبيت الأبيض دونالد ترامب الذي وصل إلى حد مطالبته بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، تجاوز خطاب «الحرب على الإرهاب» لصاحبه سيء الذكر جورج دبليو بوش فـي أعقاب الهجوم على برجي التجارة العالمية فـي نيويورك قبل أكثر من 14 عاماً.
نظرة ترامب العدائية تجاه المسلمين فـي أميركا وتسويقه لمقولة أنهم يشكلون خطراً على أمن البلاد، ليس بالأمر الجديد على الساحة الأميركية، وإذا كان ترامب قد تمادى فـي تصريحاته العنصرية العلنية، فإن المواقف المنددة من أعلى مراكز السلطة فـي واشنطن كانت كفـيلة بتهدئة مشاعر المسلمين الأميركيين -ولو قليلاً- بعد أن باتوا يشعرون بخطر حقيقي على مستقبل وجودهم فـي هذه البلاد.
لكن تهدئة المشاعر لا تكفـي، فمن يضمن ألا يقوم معتوه آخر بارتكاب مجزرة جديدة، ويحدث أن يكون مسلماً متأثراً بـ«داعش» وأخواتها، فحتى الدستور الذي يحمي حقوق المسلمين الأميركيين فـي هذه البلاد، قد لا يكون كافـياً لحمايتهم إذا ما ترسخت مقولة أن «المسلمين خطر على أميركا»، ألم يتم اعتقال الأميركيين من أصول يابانية خلال الحرب العالمية الثانية؟ وهل خرق روزفلت الدستور؟ سأل ترامب.
من المؤسف والمثير للقلق فعلاً أن تتعمق دعوات العداء والتمييز ضد المسلمين وتتجاوز طابعها الراديكالي ومضمونها اليميني المتطرف الذي أفشاه «المحافظون الجدد» لتصبح قضية رأي عام فـي بازار انتخابات الرئاسة الأميركية لتؤجج نار «الإسلاموفوبيا» فـي المجتمع الأميركي.
الموجة الكبيرة المضادة لمواقف ترامب، أراحت الكثيرين ولاسيما المسلمين، ولكن لا شك أن الكثير من تلك المواقف كان هدفها النيل من ترامب انتخابياً أو تلميع صورة أميركا أمام العالم، أكثر مما كانت ترغب فـي الدفاع عن المسلمين الأميركيين.
فمواقف ترامب سبقه عليها منافسوه، ومنهم المرشح راند بول الذي قال فـي مقابلة مع قناة «سي أن أن» التلفزيونية الأميركية: «علينا إيقاف الهجرة من الشرق الأوسط، حتى نتمكن من معرفة هؤلاء الذين يريدون أذيتنا وقتلنا»، وهو ما يتطابق تماماً مع مطلب ترامب بمنع دخول المسلمين الى الولايات المتحدة، لكن لم يرد أحد على السناتور من كنتاكي، ربما لأنه لا يتقدم استطلاعات الرأي فـي السباق الجمهوري الرئاسي!
ربما علينا شكر ترامب لأنه أثار حمية الكثيرين على المسلمين فـي هذه البلاد، وكشف عن وجوههم.
لكن فـي الواقع، ترامب ذهب بعيداً فـي خطابه المطالب بالتدقيق على المسلمين ومراقبة مساجدهم و«تسجيلهم» فـي قوائم خاصة ومنعهم من دخول البلاد، حتى أن صقور اليمين المتطرف، ومنهم ديك تشيني نفسه (وما أدراك ما ديك تشيني) «لم يتحملوا» تصريحات ترامب المتطرفة الذي لا يزال يحتفظ بصدارة السباق الجمهوري للرئاسة. وما قاله ترامب ليس مجرد فقاعة فـي المشهد السياسي الأميركي، وإنما هو تمثيل حقيقي عن تنامي العداء للأجانب والمسلمين فـي الولايات المتحدة، وما تصدره لقائمة المرشحين الجمهوريين الرئاسيين إلا دليل على أن شريحة واسعة من الشعب الأميركي تتقبل مثل هذا الفرز العنصري رغم إرثه الحضاري والثقافـي.
وفـي المقابل هناك خطاب مناهض لترامب عبرت عنه صحيفة «فـيلادلفـيا دايلي نيوز» التي ذهبت الى حد تشبيه ترامب بهتلر على غلاف عددها الأخير تحت عنوان عريض: «الفوهرر الجديد»، فـي إشارة إلى الزعيم النازي ومرجعيته التي تقوم على تفوق العرق الأبيض وخسّة الأعراق الأخرى وتخلفها.
يوم الأحد الماضي، اقترحت جينين بيرو -وهي قاضية سابقة ومرشحة لمنصب المدعي العام فـي نيويورك- خلال لقاء معها على «قناة فوكس نيوز» إغلاق الحدود وإيقاف تأشيرات الدخول أمام الزائرين، وقالت «لا يهمني ما إذا تأشيرات للعمل أو لقضاء العطلات أو للخطوبة أو للدراسة. يكفـي. هؤلاء الناس لا يملكون الحق فـي التواجد هنا».
لقد قدمت بيرو فـي تصريحاتها تلك، النسخة الأكثر ترويعا من صورة البلاد الأميركية، فـي حثها الأميركيين على «شراء السلاح والكفاح من أجل البقاء على قيد الحياة ووضع حد لإعادة توطين المهاجرين» التي تهدف بحسب رأيها إلى تغيير التركيبة السكانية فـي الولايات المتحدة التي تقوم على الثنائية المسيحية-اليهودية.
إن التجاهل التام لتصريحات بيرو والرد فقط على تصريحات ترامب يصب فـي سياق لعبة سياسية لا أكثر ولا أقل.
إن ترامب ليس صانعاً للرأي العام الأميركي وليس قائداً له، ولكنه «يمشي على الموضة» لكي يتمكن من اجتذاب أكبر قدر ممكن من الأصوات التي تؤهله إلى كسب الانتخابات، وهو الأمر نفسه الذي يدفع خصومه الى إدانة مواقفه المناوئة للمسلمين.
كيف خلق ذلك المناخ المتوتر المعادي للمسلمين والمهاجرين فـي أميركا؟ ومن هو الذي يشغّل ماكينة البروباغندا التي تغذي التطرف والعدائية ضد المسلمين والمهاجرين؟
إننا نقدر بعض الأصوات الحكيمة والعادلة التي فضلت عدم الانسياق وراء الموجة ورفضت تنميط الجماعات بناء على عرقها أو دينها، من أمثال المرشحين الديمقراطيين بيرني ساندرز وهيلاري كلينتون ورئيس مجلس النواب الجمهوري بول راين، إضافة إلى نخبة واسعة من الكتّاب والفنانين والأكاديميين التي انتقدت موقف ترامب وآراءه غير المسبوقة فـي تطرفها وعدوانيتها.
كما أننا نقدر لصحيفة «ديترويت فري برس» موقفها فـي الدفاع عن «مجتمعنا الإسلامي» فـي الولايات المتحدة، من خلال افتتاحية غير اعتيادية على الصفحة الأولى تحت عنوان «نقف معا»، وتصريحات البيت الأبيض التي وصفت ترامب «بأنه غير مؤهل لشغل منصب الرئيس»، ورسالة مؤسس والمدير التنفـيذي لموقع «فـيسبوك» مارك زوكربيرغ الذي رفع منشورا على صفحته الشخصية عبر فـيه عن تضامنه مع المسلمين داخل أميركا وحول العالم، ولكننا نأمل من الشعب الأميركي وأفراد الجاليات المسلمة ومنها العربية، ومن الأكثرية الصامتة، أن يعملوا كل ما فـي وسعهم لكي يحبطوا الخطاب المتطرف والمستعدي للعرب والمسلمين فـي الولايات المتحدة.
وشكرا لكل من وقف إلى جانبنا فـي هذه المحنة الوطنية.
Leave a Reply