شهادة السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي حول الاحتجاجات في لبنان (من دون تعليق(
ترجمة: وليد مرمر
يجب أن أبدأ بالإشارة إلى أنني أمثل نفسي فقط أمامكم اليوم، وليس لمؤسسة «بروكينغز» أي مواقف تتعلق بالسياسة الخارجية. أود أيضاً أن أؤكد في البداية أن الاحتجاجات الحالية في لبنان لا تتعلق بالولايات المتحدة ولذا علينا أن نتجنب أي شيء قد يغير التركيز باتجاه الولايات المتحدة. ولكن نتائج الاحتجاجات قد تؤثر على المصالح الأميركية بشكل إيجابي أو سلبي. لهذا السبب أرحب بشدة، باهتمام الكونغرس بلبنان في لحظة يمكن أن تكون لحظة محورية في تاريخ بلد، كلبنان، مهم للولايات المتحدة.
هناك تصوّران شائعان عن لبنان في الولايات المتحدة: نظرة رومانسية مفادها أن لبنان هو ديمقراطية متعددة الطوائف وبلد منفتح نسبياً ومجتمع نابض بالحياة، يتمتع بوجه ثقافي رائع وطعام مذهل إضافة للتاريخ والضيافة المميزة. أما النظرة البديلة فمؤداها أن لبنان، هو بلد مزقته الحرب الأهلية الدموية وهناك قد تم قتل المارينز والدبلوماسيين وبالتالي فهو موقع خطير متقدم لإيران يهدد المصالح الأميركية في المنطقة وخارجها.
ومع إعطاء الشيء من المصداقية لكل نظرة، أود أن أبدأ باستعراض مدى التأثير الكبير للبنان الصغير على المصالح الأميركية. الأكثر وضوحاً، هو تفعيل إيران لدورها الإقليمي الخبيث من خلال تصديرها الناجح لمنظمة «حزب الله» الإرهابية بقدراتها المتقدمة التي تهدد إسرائيل وغيرها من حلفاء الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، فإن خطر قيام الجماعات المتطرفة السنية وتنظيم «القاعدة» أو «داعش» بإنشاء معاقل في لبنان قد تراجعت إلى حد كبير، وذلك بفضل الجهود المستمرة المثيرة للإعجاب التي بذلها الجيش اللبناني. ولكن، وكما حدث في العراق، يمكن أن تتآكل هذه المكاسب بسرعة، مع التداعيات الدولية، ومن دون الحذر المتواصل.
إن تاريخ «حزب الله» والجماعات الإرهابية السنية يوضح بدون لبس أن استقرار لبنان هو مصلحة للولايات المتحدة.
لقد استغلت إيران الحرب الأهلية في لبنان، والصراع الداخلي بعد عام 2003 في العراق، والحروب الأهلية الأخيرة في سوريا واليمن لإنشاء جذور عميقة ثبت صعوبة القضاء عليها. وبعبارة أخرى، أصبحت الحروب الأهلية أدوات لتوسيع نفوذ إيران. الفوضى هي أيضاً أرض خصبة لتربية الإرهاب من نوع «القاعدة»، كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن والصومال.
تنظر روسيا أيضاً إلى لبنان كمكان لمواصلة توسعها العدواني لدورها الإقليمي والمتوسطي. لقد رسخت روسيا تواجدها في سوريا، كما ويمنح المرتزقة الروس الذين يساعدون الجنرال (خليفة) حفتر في هجومه على طرابلس في ليبيا، يمنحون موسكو موطئ قدم جنوب المتوسط. إن موانئ لبنان الثلاثة ومخزونات الهيدروكربون البحرية، إذا ما تم استغلالها من روسيا، فإنها ستؤكد أن روسيا تسجل الانتصار تلو الانتصار في شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط، وعلى حسابنا. ومع وجود أكثر من 400 مواطن صيني في اليونيفيل في جنوب لبنان، قد ترى الصين أيضاً إمكانات في موانئ لبنان وموقعه –وقد يجد اللبنانيون صعوبة في مقاومة تكنولوجيا «جي–5» خصوصاً مع الوضع المأساوي الحالي لقطاع الاتصالات اللبناني.
وبالقرب من لبنان، فإن بشار الأسد الذي يفترض أنه دكتاتور قوي، فإنه يعتمد بشكل محرج على روسيا و«حزب الله» وإيران لإعادة تأكيد سيطرته على معظم سوريا، وهو يتمنى بلا شك أن يعود مرة أخرى كوسيط إقليمي من خلال إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل عام 2005 المذل له عندما أجبره مزيج من الاحتجاجات اللبنانية والضغط الدولي بقيادة الرئيس جورج بوش على إنهاء الاحتلال العسكري القمعي الطويل للبنان. إن روسيا التي لم تكن راضية أبداً عن تأكيد الرئيس بوش على حرية لبنان، قد تكون سعيدة بتيسير إعادة الهيمنة السورية على جارها الصغير، وخاصة كغطاء مناسب لأهداف روسيا الخاصة في لبنان.
باختصار، فإن لبنان هو مكان للتنافس الاستراتيجي العالمي. وسوف يملأ الآخرون الفراغ بسعادة إذا تنازلنا نحن.
على الرغم من أن الديمقراطية اللبنانية قد تبدو مختلّة نوعاً ما، فإن لدينا أيضاً مصلحة في رؤية استقرار دولة عربية متوسطية تتمتع بحريات مدنية قوية نسبياً وتقاليد ديمقراطية وتعايش متعدد الطوائف. وبسبب صلاتهم الدولية القوية، يطمح معظم اللبنانيين إلى الارتباط سياسياً وثقافياً واقتصادياً ومالياً بالغرب التقليدي –أوروبا وأميركا الشمالية– أكثر من إيران أو روسيا أو الصين. هناك تقارب طبيعي من الممكن أن نستفيد منه بين معظم اللبنانيين والغرب. لكن بصفتهم مواطنين في بلد صغير ضعيف في منطقة خطرة، سيبحث اللبنانيون أيضاً، وليس بطريقة غير عقلانية، عن شركاء خارجيين يمكن الاعتماد عليهم. وبحكم كون لبنان بلداً محبطاً ومحتاجاً ومعقداً، فإننا بحاجة إلى الإشتراك في اللعبة الطويلة وعدم السماح لإيران أو سوريا أو الصين أو روسيا باستغلال غيابنا.
على مر السنين، تعجب الكثيرون منا من الخدعة المسرحية الأنيقة التي اتقنها لبنان ألا وهي قدرة البقاء –بطريقة أو بأخرى– عائماً على المستوى السياسي والاقتصادي وسط ظروف يرثى لها وتوحي بانهيار وشيك. ولقد أثبتت التنبؤات بمصير لبنان أنها إن لم تكن خطأ فأنها من الأكيد سابقة لأوانها. لكن هذه المرة، يبدو أن الستار قد أسدل على هذا المشهد الذي طالما قاوم السقوط. وليس إدارة الدين الداخلي والخارجي للبنان والذي أصبح أكثر تعقيدا في ظل اقتصاد متوقف عن النمو هو سبب القلقلة فحسب، بل إن عامة الناس يشعرون بالضيق، أو حتى بالغضب، من الخطاب الطائفي والأعذار التي يستخدمها القادة السياسيون لتعزيز سياستهم السياسية والمالية الضيقة على حساب مصلحة البلد ككل. لقد أصبحت الولاءات الطائفية التي تشحذ الاقتصاد اللبناني مفهومة بشكل متزايد على أنها نظام لإبقاء الناس متقوقعين في السجون الطائفية. وفي الوقت نفسه، فإن اللامساواة في دخل الفرد آخذة في الارتفاع كما وإن خلق فرص العمل أصبح في تراجع. نتيجة لذلك، يخضع النظام السياسي اللبناني برمته الآن للمساءلة والمحاسبة من قبل الشعب، وحتى «حزب الله» أصبح هدفاً للنقد واسع النطاق، وهو موضوع سأناقشه بمزيد من التفاصيل أدناه.
وكما تشير التقارير الإعلامية، فإن طبيعة الاحتجاجات العابرة للطوائف التي اندلعت في أكتوبر، هي واعدة وملهمة في السياق اللبناني للأمور. فالسنة والمسيحيون والشيعة والدروز خرجوا جميعهم إلى الشوارع واصفين أنفسهم بأنهم لبنانيون أولاً بدلاً من السقوط عن قوقعتهم الطائفية. إن أهمية هذه الاحتجاجات تفوق الحركة التي بدأت في 14 مارس بعد اغتيال رفيق الحريري، لأن الشيعة انضموا هذه المرة للعبة. علاوة على ذلك، كانت احتجاجات عام 2005 تهدف إلى إنهاء احتلال سوريا للبنان، حيث كان قسم كبير من الشيعة غير متحمسين لهذا الطلب. أما اليوم فيركز المحتجون على القضايا المحلية –الوظائف، جمع القمامة، خدمات المرافق وما إلى ذلك– وهي مطالب يمكن أن توحد اللبنانيين بدلاً من تقسيمهم. بمعنى آخر، هناك ضغط «من القاعدة إلى القمة» واسع النطاق من أجل التغيير في لبنان.
على الرغم من أن الاحتجاجات لا تتعلق بالولايات المتحدة، فإن المظاهرات وردود الفعل عليها من جانب القادة والمؤسسات اللبنانية تتقاطع لحسن الحظ مع المصالح الأميركية. لطالما تغطرس «حزب الله» على أنه «لا يقهر» و«نظيف» و«مناهض للدولة العميقة» مقارنة بالأحزاب اللبنانية الأخرى. لقد أضعفت خطابات الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله –الأربعة حتى الآن والحبل على الجرار – والهادفة إلى إضعاف الثقة بالمحتجين، أضعفت مصداقية «حزب الله» بطريقة أجدى وأكثر فعالية من سنوات من الجهود الأميركية للقيام بذلك.
لقد دعا نصرالله، الذي يروج لنظريات سخيفة للتدخل الأجنبي، إلى إنهاء المظاهرات؛ ولكنها استمرت. وطلب من المتظاهرين الشيعة العودة إلى ديارهم. البعض لبى، لكن معظمهم أبى. وقال إن الحكومة يجب ألا تستقيل. ثم قام رئيس الوزراء الحريري بفعل ذلك. هذا هو «حزب الله» الذي «لا يقهر»؟! إن إصرار نصرالله على بقاء الرئيس ميشال عون في منصبه ورفضه لاقتراح إجراء انتخابات برلمانية مبكرة يشوه سمعة «حزب الله» بشكل لا يمحى ويجعله جزءا لا يتجزأ من المؤسسة السياسية الفاسدة التي يريد المتظاهرون القضاء عليها. لم يعد باستطاعة «حزب الله» أن يدعي أنه «نظيف»، كما وإن مشاركته في الحكومة المستقيلة والمبغوضة من الحراك قد أضرت بتعهداته بتقديم الخدمات بشكل أكثر فعالية من غيره. من حيث الرؤية العامة لدوره السياسي، فإن «حزب الله» الآن قد هبط إلى نفس كومة القمامة مثل الأحزاب اللبنانية الأخرى المشكوك فيها.
إضافة إلى ذلك، من غير المرجح أن ينسى المواطنون اللبنانيون أن «حزب الله» وشريكته الصغيرة «أمل» قد أرسلتا بلطجية على الدراجات النارية لضرب المتظاهرين. لقد أعادت هذه الوحشية إحياء ذكريات كان «حزب الله» يفضل بقاءها مدفونة.
ففي مايو 2008، استولى «حزب الله» وحركة «أمل» على مساحات شاسعة من بيروت والمناطق المحيطة بها لعرقلة جهود الحكومة لتفكيك شبكة الاتصالات السرية التابعة لـ«حزب الله». قُتل العديد قبل أن يسيطر الجيش على الوضع. وفي حين أن «حزب الله» لم يبد أي قلق بشأن قتل وحتى تجويع أعداد كبيرة من المدنيين في سوريا، فإن أية محاولة لتكرار هجوم مايو 2008 في الداخل اللبناني ستبخر ذريعة «المقاومة» بالفعل لدى «حزب الله». لقد حاولت الولايات المتحدة لسنوات حث اللبنانيين على مواجهة حقيقة أن «حزب الله» وصواريخه تضاعف من خطر الحرب مع إسرائيل بدلاً من توفير الحماية منها. إن رد فعل «حزب الله» الخطابي والفعلي على المظاهرات الحالية قد يوقظ المزيد من اللبنانيين –بما في ذلك الشيعة، وهو أمر ضروري لتقويض شعبية «حزب الله»– على هذا الواقع القاتم.
كما أن المظاهرات الحالية تقوض بشكل بناء، الشراكة بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، وهو حزب مسيحي، تابع للرئيس عون وصهره، وزير الخارجية جبران باسيل الذي يعد المهندس الأكثر مسؤولية عن قدرة «حزب الله» على النفوذ الوطني العابر للطوائف والذي يتجاوز اجنداته الإيرانية الطائفية. ولقد تم ذلك نتيجة خلق تحالف بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» في عام 2006. لقد أمن هذا التحالف الغطاء المسيحي لـ«حزب الله» وأعطاه الآلية للتغلغل في مؤسسات الدولة. وبذلك لم يعد «حزب الله» مقيداً بـ«الحصة الشيعية» في النسب الطائفية اللبنانية نظراً لأنه أصبح بإمكانه الإعتماد على حصة «التيار الوطني الحر» وتجييرها لصالحه. ولطالما استغل باسيل، القلق الصادق الذي تشعر به الولايات المتحدة ودول أخرى حول وضع المسيحيين في الشرق الأوسط على وجه التحديد عبر المراوغة وعبر تقويته «حزب الله» وتسهيل فساده. أصبح باسيل الآن يمثل تجسيداً لكل ما يثير غضب المتظاهرين في حين أن خطاب والده الرئاسي (بما في ذلك الخطاب الذي يشير إلى أن الأشخاص غير الراضين عن الوضع الراهن في لبنان يتمتعون بالحرية في الهجرة) يعكس وجهة نظر شخص يحلق بعيدا عن المزاج الوطني. حتى الآن، يتمسك «حزب الله» بتحالفه مع «التيار الوطني الحر». لكن قيمة هذا التحالف قد انخفضت إلى حد كبير وتزيد من امتعاض الشعب المتزايد تجاه «حزب الله» بشكل عام.
على النقيض من ذلك، فإن سمعة الجيش اللبناني الذي تمكن إلى حد بعيد من الابتعاد عن السياسة، قد تصاعدت، في معظمها، نحو الأفضل. كانت هناك بعض المشاكل والتناقضات في رد فعل الجيش على الاحتجاجات. قام الجيش اللبناني بحماية المتظاهرين في بيروت ضد بلطجية «حزب الله» و«أمل»، بينما غضت وحداته في النبطية في الجنوب الطرف إلى الاتجاه الآخر؛ أردى نيران القوات المسلحة اللبنانية متظاهراً الأسبوع الماضي. لكن بشكل عام، استجاب الجيش اللبناني باحتراف وضبط النفس لأوضاع في غاية التعقيد: فمثلاً ما الذي سوف نفكر فيه نحن الأميركيون إذا منعتنا الاحتجاجات المستمرة من الوصول إلى مطاراتنا أو مستشفياتنا أو وظائفنا؟ علاوة على ذلك، أُجبرت القوات المسلحة اللبنانية على العمل والمجازفة دون أي توجيه سياسي متماسك –أو غطاء– من القيادة المدنية اللبنانية ومع تهديدات ضمنية من «حزب الله» لإزالة الاحتجاجات. في الأيام الأخيرة، وهذا مما أثار فزع المتظاهرين، تحرك الجيش اللبناني بقوة أكبر لفتح الشوارع والطرق، للسماح للمدارس والشركات والمباني العامة بإعادة فتح أبوابها.
على الرغم من أن سجلها لم يكن مثالياً، إلا أن أداء القوات المسلحة اللبنانية كان رائعاً بشكل عام في هذه الظروف. وكان التناقض بين أدائها وأداء بلطجية «حزب الله» على الدراجات النارية في غاية الوضوح، كما وأن سلوك الجيش اللبناني يعد راقيا مقارنة مع رد فعل قوات الأمن العراقية أو المصرية أو السورية على المحتجين. يمكن أن يشكل الجيش اللبناني مثالاً يحتذى للقضاء على الطائفية في المؤسسات بفضل الاحترام الشعبي له كمؤسسة وطنية مستقلة قادرة ذات مصداقية ولاطائفية. ورغم أن هذه الظاهرة لا علاقة لها بأميركا إلا أننا يمكننا الاستفادة منها وتجييرها لمصالحنا بالتأكيد.
قد يتساءل البعض في واشنطن عما إذا كان على الجيش الآن الاستعداد لمواجهة «حزب الله» ونزع سلاحه بالقوة. ستكون هذه وصفة للحرب الأهلية. وكما ذكرت أعلاه، فإن إيران وعملاءها إلى جانب تنظيم «القاعدة» يميلون إلى زيادة نفوذهم في حالات الحرب الأهلية. نحن بحاجة إلى التفكير على المدى الطويل. بشكل عام يعرف ضباط الجيش الذين يدافعون عن استقلاليتهم، مدى تحسُّن قدرات الجيش وكفاءته المهنية بفضل التدريب المستمر والتسليح الأميركي، ولقد بدأ الشعب اللبناني يدرك ذلك أيضاً.
لقد بدا هذا التحسن بمقارنة عملية مكافحة الإرهاب في عام 2007 مع الجهود الأخيرة لمكافحة الإرهاب، وظهر هذا الفرق بوضوح. لقد عمل الجيش اللبناني من مايو حتى سبتمبر لتصفية «فتح الإسلام»، وهي منظمة إرهابية سنية مستوحاة من تنظيم «القاعدة». خلال المعركة، قُتل 158 من جنود الجيش اللبناني وضباطه (إلى جانب 222 من إرهابيي «فتح الإسلام»)، وتوفي أكثر من 50 مدنياً، ودُمر مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين والذي كان يضم في السابق أكثر من 30 ألف شخص بشكل كامل. آما الآن، فيقوم الجيش اللبناني بعمليات سريعة وفعالة لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك على الحدود اللبنانية السورية بأقل عدد من الضحايا المدنيين أو من الجيش. استغرقت عملية 2017 لتنظيف شرق لبنان من أكثر من 700 مقاتل من «داعش» عشرة أيام قتال فقط، قتل خلالها سبعة من الجيش. واعتقل الجيش اللبناني أكثر من ثلاثة آلاف متطرف سني في عام 2017 وعدة مئات آخرين في العام الماضي. إن ضباط الجيش اللبناني الفخورين بمؤسستهم يدركون زيادة الدعم الشعبي لهم وهم يتهامسون باستياء من انتقاد «حزب الله» لهم ولسوف يظهر هذا الاستياء للعلن مع مرور الوقت.
على الرغم من وجود بعض الهنّات وغياب تكتيك واضح للمواجهة، خاصة في الجنوب الذي يسيطر عليه «حزب الله»، يجب أن ندرك أن علاقة الجيش اللبناني مع «حزب الله» ليست رومانسية وأبدية. إن للولايات المتحدة الفضل في المساهمة في احترافية الجيش وتنمية قدراته، وهذا ما عزز من احترامها واستقلالها المحليين. يؤسفني أنه تم إيقاف المساعدة الأميركية للجيش وأتمنى أن تكون لفترة وجيزة فقط. إن توقف التمويل العسكري للجيش يعطي انطباعاً سيئاً عنا ويتم استعماله من «حزب الله» وسوريا وإيران للحديث عن عدم جدوى الإتكال على الأميركيين كحلفاء.
صحيح أن المظاهرات كانت تركز على القضايا العاجلة المتعلقة بالوظائف والقمامة والخدمات، إلا أنها حدثت في ظل أزمة مالية كانت تلوح في الأفق. ويعد لبنان واحداً من البلدان التي لديها أعلى نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم –متجاوزاً 150 بالمئة– وهو يتأرجح منذ فترة طويلة على شفا كارثة مالية. ويبدو أن قدرة النظام المصرفي على متابعة الهندسة المالية الذكية لمنع الانهيار نحو الهاوية قد استهلك قدراته. ومع تشديد قيود التأشيرات على أوروبا والولايات المتحدة، إضافة إلى تراجع نسبة العمالة اللبنانية في دول الخليج فقد لبنان تحويلات مالية كبيرة من العملات الأجنبية كانت ترفد الاقتصاد اللبناني.
لكن المشكلة الحقيقية هي الركود الاقتصادي المستمر. يمكن إدارة الديون في بيئة من النمو الاقتصادي. وحتى قبل المظاهرات الحالية لم يكن الناتج الإجمالي المحلي من المتوقع أن ينمو إلا بنسبة 0.02 بالمئة فقط هذا العام. إن خصخصة أصول الدولة –الاتصالات والكهرباء– يمكن أن يجلب إيرادات مالية، إذا أمكن الوثوق بخطط الخصخصة ومن غير فساد، ويمكن أن يحسن الخدمات على المدى الطويل في ظل وجود حكومة شفافة وموثوق بها تعمل للصالح العام وليس للمكاسب الشخصية. كل هذا يمكن أن يسهم في تحسينات اقتصادية. ويمكن إحداث فرق كبير إذا جلبت استثمارات جديدة وإذا عاد السائحون الخليجيون والشركات والودائع المالية.
ومع ذلك، فإن النجاح في جذب المستثمرين الغربيين ودول مجلس التعاون الخليجي سيظل بعيد المنال دون تغييرات كبيرة. سوف يبحث المستثمرون الغربيون ودول مجلس التعاون الخليجي في أي مكان آخر عن الفرص إذا ظل اللبنانيون راضين عن كونهم جزءاً مما يُعتبر المحور الإيراني–السوري وما إذا كانوا يتسامحون مع غياب الشفافية وسيادة القانون. وبشكل أكثر وضوحاً، لن يعود المستثمرون والسائحون بأعداد كبيرة طالما بقي «حزب الله» قادراً على جر البلاد إلى حرب دون الرجوع إلى الدولة. سيحتاج اللبنانيون أنفسهم إلى اختيار الطريق المؤدي إلى الفقر الدائم أو الرخاء المحتمل، من خلال تحديد ما إذا كانوا سيستمرون في قبول الحكم الرديء إلى جانب الفيتو الفعال على القرارات الحكومية التي يصر عليه «حزب الله» مع رفضه أية مساءلة تتعلق بتصرفاته الإجرامية في كثير من الأحيان. قد لا يتمكن الناخبون اللبنانيون من تجريد «حزب الله» من ترسانته بين عشية وضحاها، لكن يمكنهم اغتنام الفرصة الانتخابية المقبلة لتجريد «حزب الله» من الشركاء البرلمانيين الذين يستخدمهم لمضاعفة قوته السياسية: وهكذا، فإن خط حسن نصرالله الأحمر هو الانتخابات المبكرة.
حتى كتابة هذه السطور، ليس من الواضح أن الطبقة السياسية المحاصرة في لبنان لديها أية فكرة عن نوع الحكومة التي قد تلبي مطالب الشارع. ولا يبدو أن المرشح الذي تتم مناقشة اسمه حالياً لرئاسة الوزراء، وهو رجل الأعمال ووزير المالية السابق محمد الصفدي، يمثل حالة مستقلة عن السياسيين الحاليين، كما تشير ردة فعل الشارع الأولية. ويرفض المتظاهرون عمدا فكرة انتداب قادة للتفاوض نيابة عنهم بحجة أنهم قلقون بشأن السلامة في بلد يتعرض فيه الزعماء السياسيون والنشطاء الاجتماعيون للقتل بشكل روتيني. هذا يترك انطباعاً منقوصاً حول رغبة الحراك وأهدافه. يجتمع المتظاهرون على عدم الرغبة في المضي في الوضع الراهن ولكن من غير أي اقتراح واضح حول ماذا يمكن أن يحل مكانه. وهذا يعطي سببا للطبقة السياسية للتهرب من المساءلة والاستبدال لأن «الشارع» ليس على دراية من خططه أو ليست لديه الآلية لتحقيقها.
علاوة على ذلك، وفي تناقض مع الصورة غير الطائفية المعطاة بعناية من قبل المتظاهرين، ظهر بعض الإحباط العام في المناطق ذات الأغلبية السنية مثل طرابلس مؤداه أن «المصالح السنية» قد تضررت عندما استقال رئيس الوزراء الحريري (سني)، بينما بقي رئيس البرلمان نبيه بري (شيعي) والرئيس عون (ماروني) في مكانهما. سيكون من الصعب طرد الأشباح الطائفية في لبنان.
بعد زلات خطابات حسن نصرالله، يجب على «حزب الله» إعادة الحساب مع قادة الوضع الراهن حول كيفية الحفاظ على صلاحياتهم بينما يحاول إرضاء المزاج الشعبي بطريقة أو بأخرى. وفقاً لإحدى الشائعات، فإن بعض الزعماء التقليديين يأملون في السماح لظهور حكومة تكنوقراط، اعتقاداً منهم بأن هذه الحكومة سوف تشهد الانهيار المالي المتوقع، وبالتالي هذا يمهد لهم الطريق للرجوع إلى السلطة. وليس الإشارة، ولو مرحلياً إلى احتمال تسمية الصفدي إلا استنتاج أن المتظاهرين لن يحصلوا على حكومة التكنوقراط البحتة التي يبغون. لكن الانتقاد الواسع للطبقة السياسية والطائفية ولـ«حزب الله» قد كسر محرمات كبيرة. علاوة على ذلك، فإن وكلاء سوريا وإيران في لبنان –الذين كان يُنظر إليهم في يوم من الأيام على أنه لا يمكن تمييزهم فعلياً وهم يغنون دويتو «المقاومة» في وئام بغيض– يُظهرون علامات انقسام جديدة وغير مسبوقة. حتى لو لم تتحقق جميع المكاسب المحتملة على الفور، فإن عام 2019 هو نقطة تحول للبنان.
إن احتجاجات عام 2005، التي نجحت في إجبار الجيش السوري ومخابراته على مغادرة لبنان، تقدم درساً مهماً لهذا الوقت: ألا وهو القيمة الفعالة للمبادرة المحلية المقترنة بالدعم الخارجي. على سبيل المثال، لو كانت الولايات المتحدة وفرنسا قد ضغطتا قبل 14 عاماً كي ينسحب السوريون إلى جانبهم من الحدود، وبقي اللبنانيون في منازلهم، كان بإمكان السوريين مقاومة الضغوط الخارجية للرحيل. ولو أن الولايات المتحدة وفرنسا كانتا تنظران بعيداً، غير مهتمين، عندما خرج اللبنانيون إلى الشوارع بأعداد هائلة ضد الوجود السوري، فإن السوريين لم يكونوا ليبدوا أي قلق في سحق المظاهرات بالقوة. إن الجمع بين اللبنانيين في الشوارع بأعداد هائلة واهتمام المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش وفرنسا بقيادة الرئيس جاك شيراك، لم يعط السوريين خياراً قابلاً للتطبيق سوى الإنسحاب.
كما في عام 2005، يمكن أن يساعد الاهتمام اليوم –من قِبل الكونغرس والإدارة الأميركية ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والآخرين– على حماية المتظاهرين. لكن المظاهرات لا يمكن أن تستمر إلى أجل غير مسمى، خاصة وأن المواطنين العاديين يتعبون من انكسار الروتين اليومي والقلق من التكاليف الاقتصادية المتأتية من الشلل العام. لذا فقد يُحدث الاهتمام الأميركي المستمر والرسائل المدورسة فرقاً في نتائج الثورة.
إن الأمر في غاية الدقة. فلن يكون من الحكمة التدخل مباشرة في القرارات السياسية اللبنانية، والتي من شأنها أن تجعل من السهل على نصرالله (أو سوريا أو إيران أو روسيا) أن يستشهد بأمثلة موثوقة لتشويه سمعة المتظاهرين ومطالبهم واتهامهم بتنفيذ أجندة أميركية. كما يجب ألا يُنظر إلينا على أننا نتدخل في اختيار رئيس وزراء لبنان المقبل (الصفدي أو أي شخص آخر) أو وزراء معينين في الحكومة؛ تلك قرارات لبنانية حصرية. لكن بما أن مصالحنا الوطنية ومصالح حلفائنا الإقليميين ستتأثر بما يحدث في لبنان، فإننا نتحمل مسؤولية توضيح وجهات نظرنا من خلال أقوالنا وأفعالنا. وينبغي على اللبنانين أن يفهموا تماماً الآثار المترتبة على القرارات التي سيتخذونها بشأن التعيينات والسياسات الحكومية.
كخطوة أولى، ينبغي الإفراج بسرعة عن المساعدة العسكرية قيد المراجعة الآن. هذا من شأنه أن يضع الولايات المتحدة إلى جانب المؤسسات الوطنية ذات المصداقية. في الوقت الذي تنمو فيه شعبية الجيش اللبناني مقارنة بما يبدو أنه تراجع في سمعة «حزب الله»، يمكننا تعزيز ما هو بالنسبة لنا وللبنان قوة دفع إيجابية. من شأن إطلاق المساعدة أن يقوض المحاولات المستمرة التي يقوم بها «حزب الله» وإيران وسوريا وروسيا لجذب اللبنانيين إلى مداراتهم من خلال التشكيك في مصداقية الولايات المتحدة. إن مساعدتنا العسكرية لا يتم تقديمها دون قيد أو شرط؛ نحن نستفيد أيضاً من الشراكة مع الجيش اللبناني. إن توقعاتنا بأن يقوم الجيش بتحسين كفاءته المهنية قد تجلت بوضوح من خلال تدابير مكافحة الإرهاب الناجحة والاستجابة المناسبة (في الغالب) للاحتجاجات. يمكن للولايات المتحدة أن تربط المساعدات بالإصرار على أن تبقى القوات المسلحة اللبنانية خارج السياسة وأن تعامل المتظاهرين السلميين باحترام متساو في جميع أنحاء البلاد، في النبطية وفي بيروت.
كما أوصي بأن نجد طرقاً علنية لتعزيز موقفنابأننا لا نريد أن نرى الانهيار المالي أو السياسي للبنان (خشية أن توفر الفوضى والحرب الأهلية المزيد من الفرص لإيران وسوريا وروسيا للتدخل) –لكن قدرتنا على التدخل و على حشد الدعم المالي والاقتصادي يتوقف على قرارات اللبنانيين أنفسهم، بما في ذلك تأليف الحكومة المقبلة وسياساتها.
نعم، نحن على استعداد للوقوف إلى جانب لبنان، ولكن على أساس مدى رغبة اللبنانيين في المضي قدماً أو لا. وإذا ما عالجت الحكومة اللبنانية القادمة مسائل الحكم والمساءلة، فيمكن للمجتمع الدولي الاستجابة؛ وإذا عادت الحكومة إلى «العمل كالمعتاد»، فلن نتمكن من حشد الدعم لمنع الانهيار. مع دعوة المتظاهرين إلى حكومة تكنوقراطية وليس حكومة سياسية، يمكن أن نتأكد بأنه بمقدرة حكومة لبنانية جديدة أن تعالج بشكل فوري وفعال، المشاكل وأن تلبي تطلعات الشعب اللبناني في ظل الدعم الدولي.
في حين أن القرارات هي قراراتهم، فإن اللبنانيين، الذين عاشوا لفترة طويلة راضين بالتناقض بين هويتهم الذاتية مع الغرب أثناء إيوائهم لمؤسسة إرهابية إيرانية، يحتاجون إلى فهم النتائج المترتبة على المسار الذي يختارونه. في الأزمات المالية السابقة في لبنان، حولت دول الخليج العربية ودائعها بالعملات الأجنبية إلى البنك المركزي اللبناني بشكل مؤقت لدعم الاحتياطيات. هذا يمكن أن يتكرر. كما يمكن للولايات المتحدة، إلى جانب فرنسا وغيرها، التواصل مع المؤسسات المالية الدولية فيما يتعلق بدعم لبنان. مع وجود الأشخاص المناسبين والسياسات المناسبة، قد تنفذ حكومة لبنانية جديدة في النهاية الإصلاحات التي يمكن أن تؤدي إلى إطلاق حزمة مساعدات بقيمة 11 مليار دولار أعيد تشكيلها في مؤتمر دولي في باريس عام 2018. ومن شأن هذه التدابير أن تمنح المسؤولين اللبنانيين فترة راحة قصيرة مع بدء الإصلاحات التي وعدوا بها منذ فترة طويلة ولم يتم تنفيذها على الإطلاق والتي يطالب بها السكان الآن بغية تعزيز النمو الاقتصادي. ولكن بالنظر إلى الماضي، فإن العبء يقع على كاهل المسؤولين اللبنانيين للتغلب على الشكوك المحلية والدولية، من خلال اختيار وجوه ذات مصداقية وسياسات واضحة ومسؤولة لمجلس الوزراء القادم. كما وسيؤدي استمرار المحسوبية والفساد وتحصين «حزب الله» إلى الهبوط المستمر، في حين أن الإصلاح والمساءلة والشفافية والاعتماد على المؤسسات الوطنية بدلاً من «حزب الله» يمكن أن يجذب نوع الدعم الذي سيؤدي إلى وجهة أفضل، حيث تقدم الولايات المتحدة وغيرها الدعم والشراكة . هذه يجب أن تكون رسالتنا.
على المدى البعيد، ستكون أفضل حماية للمصالح الأميركية في لبنان هي ما يريده الشعب اللبناني: لبنان مزدهر، ديمقراطي، مستقل، يتمتع بالسيادة الكاملة، مسالم، يعتمد على مؤسسات حكومية فعالة وشفافة تخضع للمساءلة العامة. ومع وجود الحكومة المناسبة في ظل الدعم الدولي المتجدد، فإن ذلك ليس مستحيلاً على مساحة تزيد قليلاً عن 10 آلاف كيلومتر مربع. إن لبنان هو أصغر من منطقة نيويورك. يتجاوز عدد سكان نيويورك الكبرى 20 مليون نسمة، بينما يبلغ عدد سكان لبنان، بما في ذلك اللاجئين السوريين والفلسطينيين، أقل من 7 ملايين نسمة. من المؤكد أنه لا يمكن أن يكون من الصعب توفير الكهرباء والإنترنت وجمع القمامة للمواطنين اللبنانيين الذين هم وبشكل عام، متعلمون جيداً ومتصلون دولياً. ولا ينبغي أن يكون مكلفاً للغاية في ظل القيادة الصحيحة جذب الدعم لوضع المشهد المالي في مسار أفضل: لتوضيح ذلك، فإن الديون الخارجية للبنان بأكملها (حوالي 35 مليار دولار) تتساوى مع تقديرات ما تنفقه المملكة العربية السعودية كل عام في اليمن (25–40 مليار دولار).
من خلال إطلاق المساعدة العسكرية الآن، ومن خلال إظهار أننا نولي لبنان اهتماماً وثيقاً، وبتوضيح النتائج المترتبة سواء كانت جيدة أو سيئة على الاختيارات التي سيتخذها اللبنانيون، يمكننا خدمة مصالحنا الخاصة والمساهمة في الحسابات التي سيتخذها اللبنانيون فيما يتعلق بتشكيل الحكومة وسياساتها، ومنع فراغ من شأنه أن يملأه الآخرون على حسابنا. أشكر مرة أخرى الكونغرس وهذه اللجنة الفرعية على التركيز على المصالح الأميركية في لبنان.
Leave a Reply