وليد مرمر
«لم يقتلوه ولم يفجر نفسه.. انه الآن في أحد مكانين، إما أنه في واشنطن بمقر شركة المرتزقة «بلاكووتر» التي ارتكبت الفظائع السادية في سجن إبوغريب غداة الاحتلال الأميركي للعراق ، أو أنه عاد الى مكتبه ورتبته في مقر الموساد بتل أبيب ، يعتمر القلنسوة ويشرب مع زملائه نخب نجاح مهمته! وهذا هو الاحتمال الأرجح».
هكذا كانت افتتاحية مقالة في صحيفة «الدستور» الأردنية حول خبر مقتل «أبو بكر البغدادي». وادعى الكاتب فيها أن «داعش» ما هي إلا «صناعة أميركية إسرائيلية»، بل هي تمثل «أبرز أوجه التعاون الاستراتيجي الوثيق بين الطرفين وهو ما اعترفت به هيلاري كلينتون في كتاب مذكراتها «خيارات صعبة» الصادر عام 2014». وتنبري المقالة لطرح عدة تساؤلات حول عملية «تصفية» البغدادي أهمها: لماذا تزامن الإعلان عن مقتل البغدادي مع إعلان ترامب سحب القوات الأميركية من شمال سوريا؟ وكيف يقدم البغدادي على تفجير نفسه، حسب الرواية الأميركية، وهو «خليفة» المسلمين علماً أن الانتحار محرم في الإسلام؟ ولماذا لم تنشر واشنطن صوراً حقيقية لجثة البغدادي؟ أم أن حكاية «تفجير نفسه» ليست إلا حبكة درامية في مسرحية «داعش».
يؤكد صاحب المقالة أن ترامب بحاجة ماسة الآن الى «نصر» خارجي للتخفيف من هزائمه الداخلية وتبييض وجهه أمام الناخب الأميركي بالتزامن مع إجراءات عزله..
يسهب الكاتب في شرح دور إسرائيل والموساد تحديداً في خلق شخصيات كأبي بكر البغدادي شارحاً: «أما دور إسرائيل وجهاز مخابراتها الموساد فكان إعداد «خليفة» «الدولة الإسلامية» وقياداتها. ففي تل أبيب أسس الموساد العام 1956 ما يعرف بجامعة تل أبيب الإسلامية لتدريس العلوم الإسلامية المختلفة، وغير مسموح للطلبة غير اليهود الدراسة فيها.
ويشرف على الجامعة جهاز «الموساد» ويتولى مسؤولية كل شيء فيها. فهو الذي يحدد المواد الدراسية ومنهاج كل مادة وأساتذة الجامعة وطلابها وفق خطة مدروسة بعناية بالغة لتحقيق أهداف محددة.
ويدرس الطلاب اليهود في «الجامعة» مختلف المواد الإسلامية من عقيدة وتفسير وحديث وفقه ولغة عربية من وجهة نظر يهودية. ويأخذ الطلاب دورات تدريبية خاصة حول المسلمين وثقافتهم وكيفية التعامل معهم والتحايل عليهم وخداعهم. ويشرف على التدريب علماء نفس وخبراء اتصال وعلماء اجتماع وسياسة. ويتخرج الطالب من الجامعة وقد تثقف بثقافة إسلامية وشرعية وفقهية وعلمية من وجهة النظر اليهودية للإسلام. ويكون هذا المتخرج مرتبطاً ارتباطاً عضوياً مع الموساد ومدرباً معه تدريباً استخباراتياً عالياً. باختصار، يجعل الموساد من هذا المتخرج اليهودي شيخاً مسلماً يُقدّم للناس على أنه عالم كبير ويُعطى هذا «الشيخ اليهودي» اسماً إسلامياً، فيما يجهز الموساد له مكان العمل المناسب بدقة استخباراتية متناهية حيث لكي يعيش مع المسلمين ويتواصل معهم ويتجسس عليهم ويقدم كل ما يريده منه الموساد أولاً بأول. وغالباً ما يقدم «الشيخ اليهودي» هذا باسم مبهم كـ«أبو عمر الشامي» أو «أبو علي المغربي» أو «أبو بكر البغدادي»، ليقوم بعدها بإصدار فتاوى إرهابية خاصة يعدها له الموساد لتشويه صورة الإسلام الحقيقية، وقد يطلب منه تأسيس منظمة «جهادية» يجند فيها أناساً معينين على أن تقوم هذه المنظمة بعمليات يخطط لها الموساد. أليست كل هذه الصفات تنطبق على «البغدادي» وعلى ما قامت به «داعش» من تشويه للإسلام؟ ألم تقتل وتذبح في أغلب الدول العربية ولم تقتل فأراً في إسرائيل؟».
كلنا يذكر البغدادي في خطبته الوحيدة والمدروسة جيداً وبحركاته المتأنية والموزونة في مسجد الموصل حيث ارتقى المنبر بساعته «الرولكس» ثم غادر إلى جهة مجهولة برفقة عشرات السيارات ذوات الدفع الرباعي من لون وموديل واحد فيما تعطلت كل الاتصالات اللاسلكية في الموصل حسب شهادات السكان.
وحسب الرواية الرسمية فقد اعتقلت القوات الأميركية في العراق، البغدادي قبل أن تفرج عنه ويبايع «أبو مصعب الزوقاوي» في كانون الأول (ديسمبر) 2013، وصولاً إلى إعلانه قيام «الخلافة» من الموصل في تموز (يوليو) 2014 عبر إنشاء «الدولة الإسلامية في العراق والشام» أو ما صار يعرف اختصاراً، أو استهزاءً.. باسم «داعش».
نفذ داعش ما وجد لأجله، وإن كان الرئيس السابق باراك أوباما قد توقّع لدولة الخلافة أن تستمر أجيالاً، بل مئة عام! فالتنظيم الإرهابي غزا ودمر الحواضر والمدن التاريخية في العراق وسوريا، كالموصل والرقة وغيرهما، وسرق وباع الآثار ودمر ما لا يمكن بيعه، ونهب المتاحف والمكتبات وحرق الوثائق والمخطوطات. كلنا يذكر كيف سارت أليات ومدرعات التنظيم في وسط الصحراء المكشوفة لساعات طويلة ثم احتلت مدينة تدمر فيما رادارت وطائرات التحالف الدولي تراقب، بل وتؤمن الحماية اللوجستية والاستخباراتية. وقد قامت «داعش» بنهب آثار المدينة التي لها علاقة وثيقة بالتاريخ اليهودي وبيعها لتجار مجهولين ثم قامت بتفجير ما لم تتمكن من نقله!
أما احتلال الموصل فهو لم يكن إلا تمثيلية محكمة الإخراج، حيث فر عشرات الآلاف من الجنود العراقيين أمام تقدم بضع مئات من إرهابيي «داعش» ثم تم نهب مليارات المصرف المركزي في ثاني أكبر مدن العراق، وحرقت الاف المخطوطات من المكتبة العامة أمام مرأى الناس. لم تنج من التدمير الداعشي، المساجد الأثرية والمقامات وقبور الصحابة والصالحين. باختصار، قامت داعش بشن حرب شعواء على الحضارة الإسلامية وتاريخ المنطقة الحضاري باسم الإسلام، ونجحت من خلال ذلك في تقديم صورة مشوهة عن الدين الحنيف عبر التدمير والقتل والسبي والاغتصاب والتطهير العنصري. أما تدخل «التحالف الدولي» فجاء ليكمل ما لم تنهه «داعش»، وبحجة القضاء عليها، حيث قامت وعلى سبيل المثال قوات التحالف بقصف حاضرة نينوى مدينة الموصل لسنة كاملة دمرت خلالها معظم أحياء المدينة الأثرية. أما الرقة السورية فقد شبهها بعض المحللين بستالينغراد العصر الحديث حيث سويت معظم أبنية المدينة بالأرض… بحجة القضاء على «داعش»!
«دخل نفقا ليس له منفذ هو وثلاثة من الأطفال وكان ينتحب ويولول ككلب وجبان ثم قام بتفجير نفسه عبر حزام ناسف»! هذه هي الرواية الترامبية حول مقتل «أبو بكر البغدادي».
إن وحدة «دلتا» التي نفذت العملية المزعومة هي من أكثر الوحدات تطوراً في المنظومة العسكرية الأميركية وهي تقوم بتصوير كل عملياتها ولكنها لم تعرض هذا الإنجاز التاريخي على الشاشات رغم تأييد ترامب الذي قال إنه شاهد العملية برمتها كفيلم سينمائي، وفق تعبيره.
سواء قتل البغدادي أم لم يقتل فإن ما حدث جاء ليطمس هوية البغدادي، أو إبراهيم عوض البدري، أو أليوت شيمون، والذي لا شك فيه أن دوره قد انتهى وقد لحق بصاحبه أسامة بن لادن. حسب الرواية الأميركية، لقعر المحيط الذي أصبح المدفن المفضل لواشنطن لدى الحاجة إلى إنهاء أدوار شخصيات معينة من دون الحاجة إلى تقديم جثثهم لذويهم أو عرضهم أمام كاميرات التلفزة، وطبعاً، «وفق الشريعة الإسلامية» كما يطمئننا البنتاغون دائماً.
وهنا تجدر الملاحظة إلى أن الفقهاء المسلمين الذين يرجع إليهم «البنتاغون» لتبرير وتشريع عملية «الدفن البحري» المزعومة هم لا شك من خريجي «جامعة تل أبيب الإسلامية» نفسها، لأن درايتهم بالأحكام الفقهية منقوصة إن لم أقل مشوهة. فلقد أجازت الأحكام الفقهية الدفن في البحر حيث كانت الرحلات البحرية تمتد لأيام بل لأسابيع لتجنب تعفن الجثه. أما في وقتنا الحالي فلا مسوغ فقهي بتاتاً للدفن في البحر بسبب سرعة الإبحار ولوجود المروحيات، فيجدر بخبراء «البنتاغون» أن يستعينوا مستقبلاً بمستشاري كلية الدراسات الإسلامية في جامعة الملك سعود عند الحاجة لفتاوى جاهزة وأقرب للواقع!
Leave a Reply