ديربورن – «صدى الوطن»
حلّ الشاعر شوقي بزيع ضيفاً مميزاً على مكاتب «صدى الوطن» في ديربورن، حيث التقى بالزملاء الصحفيين والناشر أسامة السبلاني، متنقلاً بحقيبة مواضيعه وهواجسه وأسئلته بين أحداث العالم العربي وحال الشعر والثقافة والدين وتاريخ الجالية والصحيفة، واصفاً الولايات المتحدة بـ«الجنة الأرضية»، في حين ترك العرب جناتهم في غياهب التاريخ.
وفي حوار مصور مع الزميل عباس الحاج أحمد، تحدث الشاعر اللبناني عن زيارته الأولى إلى الولايات المتحدة قائلاً: «في الواقع، إن هذه المغامرة هي محطة أساسية في حياتي. لقد أتيت بقلق وبإحساس بأن اللغة قد نُسيت وأن الشعر لم يعد يعني من هاجر منذ عقود… وأنا لا اهتم بالمهرجانات. أنا أكتب الشعر الحديث، فكيف سيتلقاه المهاجرون؟».
لكن ما كان حاضراً بموازاة ذلك هو البعد الآخر للحلم الأميركي الأعمق الذي لا تعكسه رطانة وسماجة السياسيين، بل مقولة المفكر والشاعر المكسيكي أوكتافيو باث بأن «كل مفكر خلاق هو بمثابة كولومبوس جديد يبحث على طريقته عن «أميركاه» الخاصة وعن أرضٍ جديدة لأحلامه».
وما كنت أبحث عنه في هذه الزيارة هو الوجه الأكثر نصاعة لأميركا البراءة والعدالة والمغامرة الإنسانية التي رسمها شاعرها الأعظم والت ويتمان في ديوانه «أوراق العشب»، حيث يقول: «أغني الأنثى بالتساوي مع الذكر/ أغني الحياة الهائلة في الشغف والنبض والعنفوان/ البهيجة من أجل أقصى فعل متحرر تشكَّل في ظل القوانين السماوية/ أعني الإنسان الحديث».
أميركا، بحسب بزيع، هي بلد لا يحمل عبئاً تاريخياً، فهي ليست عجوزاً بل وعداً أتى من المستقبل.. هي ساحة لإثبات الذات والمفارقات الساطعة بين أدائها السياسي المتعارض مع حركات التحرر وطموحات الشعوب وبين المعنى الأميركي العميق المتصل بحقوق الإنسان وحريته.
محطات بزيع الأميركية الثلاث، ما بين نيويورك وواشنطن وديربورن، كانت ناجحة من حيث الإقبال والتفاعل.
في ديربورن، كانت مفاجأة بزيع كبيرة، سواء من حيث عدد الحضور أو تفاعلهم الذي تكلل «بالدموع واستعادة الماضي والذكريات التي تعود إلى شهيد أو أماكن صبا أو شجرة… فالشعر هو البدل عن ضائع وتعويض عما هو مفقود». و«هذا التفاعل هو أجمل ما يحصل عليه الشاعر».
وحول أسلوبه الشعري الممزوج بحبكة سينمائية ترى من خلالها الصور والمشاهد يقول بزيع: «أنا لست مع التصنيفات الميكانيكية للكتابة الشعرية. النقاد يصنعون المدارس والتصنيفات. أما الشاعر فيكتب في العتمة الكاملة ولا يضيء له سوى تلك الكلمات. فالعقل المباشر يفسد الشعر، كالعشاق يحبون العتمة ليستمتعوا بنور الروح».
ويضيف: «على الشاعر أن يتثقف ويتدرب وأن يدمج الفنون مع بعضها البعض. فالصورة الشعرية قد تتحول إلى لوحة تشكيلية، وهناك فنانون رسموا قصائدي». «كذلك الموسيقى هي توأم الشعر.. وكشاعر تفعيلي بالسليقة تجري الموسيقى بدورتي الدموية الشعرية».
* لمن يكتب الشاعر شوقي بزيع؟
– في ديواني «إلى أين تأخذني أيها الشعر» هناك قصيدة اسمها: «لمن يكتب الشعراء؟».. حوّلت فيها الشعر نفسه إلى موضوع للشعر… إلى أي مدى يعاني الشاعر؟ ولمن يكتب الشعراء؟ أنا أكتب جالساً في مقهى «دبيبو» (بيروت). وهناك أمور غريبة وعجيبة تحدث حول العالم.. أناس يذهبون إلى التنزه في تايلاند، سفينة تغرق في بحر الشمال، امرأة يدركها البلوغ على ضفاف المسيسيبي، أحدهم يجلس وحيداً على شاطئ الإكوادور والذي هو أخي بينما عيونه متجهة إلى الشرق نحو قبر أبي المدفون في الجنوب اللبناني. بينما أنا الآن لا أملك من هذا العالم سوى طاولتي الصغيرة وهذا الكم من الكلمات، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً تجاه الحياة التي تحدث في مكان آخر. تقع الكوارث.. شخص يصاب وآخر يغرق أو يحترق أو يحب من طرف واحد.. هنا يكتب الشاعر رداً على الغياب.
* ما هو سر مقهى دبيبو؟
– لا سر هنا سوى الألفة. مثلاً إذا ذهبت لزيارة صديق وجلست على مقعد ومن ثم زرته في اليوم التالي أعاود الجلوس على المقعد ذاته. الألفة والأمان يتحققان بهذه الصورة، فتعود إلى المكان. بالصدفة كنت أبحث عن مكان أكتب فيه ويكون خالياً من المثقفين. لأنه بحضور الأصدقاء والمثقفين أفقد القدرة على التركيز والعزلة. لم أجد أحداً من المثقفين في دبيبو. الناس هناك يذهبون لتدخين النرجيلة واحتساء القهوة. يتحدثون وأنا لا أسمعهم، وهم لا يكترثون لما أفعله. ثم تحوّل الأمر إلى عادة، فلا أكتب إلا في مكان واحد. لعل شياطين الشعر تسكن هناك. أخزن في أماكن أخرى مرتبطة بالحب، بالمقاومة، بمسقط الرأس، بالسفر، بالأنوثة، بالغربة أو بالتقدم في السن ولكن كل هذه التحضيرات لا يمكن تفريغها إلا في هذا المكان.
* حدثنا عن رائعة «قمصان يوسف»؟
– من السهل على الناس أن يتحدثوا عن قميص واحد: قميص عثمان أو قميص يوسف. رغب أحد أصدقائي وهو رجل دين بأن أكتب في مجلته. وهي مجلة دينية ولكنها متنورة وتنشر أبحاثاً معمقة. وأنا مفتون بسورتي يوسف ومريم. ففيهما قصص رائعة مفتوحة للتأويل وتحتوي مضامين إنسانية عالية. كتبت أيضاً قصيدة مريم وعبرت فيها عن صرختها أمام الخالق وأمام الوجود: لماذا أنا؟ لماذا حواء تأكل التفاحة وترتكب الخطيئة الأولى.. فيما عليّ أنا أن أدفع ثمن هذه الخطيئة الأصلية وأنت طلبت مني أن أضحي بأنوثتي من أجل الانتصار لأمومتي ولكني خسرت كليهما معاً. لا نجحتُ كأنثى ولا كأمّ، فابني صُلب أو شبّه لهم أنه صُلب.. هذا الواقع أثارني. في المقابل، بالنسبة ليوسف، اكتشفت أن له ثلاثة قمصان عوضاً عن واحد: قميص البئر (الذي عاد به أخوته إلى أبيهم)، وقميص زليخة (الذي مزقته بيديها) والقميص الذي ردّ بصر يعقوب. قميص البئر هو قميص التجربة، وقميص زليخة هو قميص الشهوة، أما قميص يعقوب فهو قميص الرؤية.. أصبحت هذه القصيدة من أشهر قصائدي. من المهم جداً للشاعر أن يطرح أسئلة على الماضي ليعيد إنتاجه من جديد فيصبح شيئاً آخر. ما استخلصته من سورة يوسف أنه في كل شخص شيء من جمال يوسف ولكن استخراج هذا الجمال ليس مجانياً وليس «شيكاً بلا رصيد»، بل يجب أن ندفع الثمن الذي دفعه يوسف. ولكل شخص بئره الخاص، بئر المكابدات والحرمان والمعاناة. وعلينا أن ننزل لهذا البئر. والإنسان لا يولد جميلاً بل يكتسب جماله.
* ما هي أهمية الشعر في تشكيل الوعي الإنساني؟
– مهم جداً كأي فن ولكن الفرق بتشكيل الوعي عن طريق الفلسفة أو التاريخ أو الجغرافيا. فالوعي هناك يقدم بشكل مباشر كمعلومة أما في الشعر فيقدم الوعي مقنعاً وملتبساً وذائباً في الصورة الشعرية كما يذوب السكر في الماء. الأهم من المعرفة في الشعر هو تذويب المعرفة وعدم الحضور إلى المباشر. هناك شعراء خسروا الكثير من نضارة إنتاجاتهم لأنهم قدموا لنا اعمالًا ذهنية لها طابع فكري ويمكن أن تقدم كنص فلسفي. والشعر لا يتغير بسرعة كالانقلابات العسكرية في العالم العربي، بل ببطء شديد ويحتاج أحياناً إلى أجيال كاملة لكي يتمكن بالانتقال من شعر نمطي تقليدي مُستهلك إلى شعر بمغامرة حداثية.
* ماذا قصدت بقولك «الناس نيام فإذا الشاعر مات انتبهوا»؟
– كنت أتحدث عن علاقة الشاعر باللغة أنه كلما حاول أن يوضح للناس ما كان يقصده كلما غرق في التعمية دون أن يقصد لأن الشعر ليس له معنى واحد. قد يكون الشاعر أقل شخص يستطيع أن يشرح شعره. هناك من يقول إنه ليس على الشاعر أبداً أن يشرح للجمهور ماذا يكتب بل أن يترك لهم حرية الاستخلاص. كلما حاول الشاعر التوضيح يزداد غموضاً. مثلاً، هناك استفادة من قصة الراعي والذئب حين قال للناس إن الذئب هاجمه ولم يكن هناك ذئب ولكن عندما حضر الذئب فعلاً لم يصدقه أحد. وهكذا الشاعر عندما يتحدث عن الموت في قصائده لا يأبه له الناس، وعندما يأتي الموت الحقيقي لا يجد الشاعر حوله أحداً فيبدأون بالتحسر عليه كما فعل سكان مدينة «فيرونا» التي كنت أزورها بروميو وجولييت. لم يهتموا لقصتهما إلا بعد موتهما. الناس نيام فإذا الشاعر مات انتبهوا، بتعبير واضح تتشابه مع الحديث النبوي: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
* رسالة لأبناء الجالية العربية
– أنا لا أحب المواعظ وإعطاء «الروشتات» على طريقة الأطباء. كل شخص يجب أن يصنع تجربته لنفسه. ولكن أود أن أقول أن هناك أكثر من وجه للهجرة. صحيح أن ترك الوطن والانسلاخ عنه هو أمر تراجيدي مأساوي حيث يشعر الإنسان وكأنه وحيد في عراء العالم ولكن هذا له أيضاً مردود إيجابي بمعنى انك لا يمكن معرفة قيمة امرأة تحبها أو حقيقة ما أو مكان إلا عندما تبتعد عنه. عندما تكون في قلب الشيء لا ترى شيئاً، كذلك الأوطان والنساء. ولا بد من هجرة ما لكي تتحقق رسالات الأنبياء أو القصائد أو الطموحات.. لو لم يهاجر الرسول من مكة لم يكن ليقدّم الإسلام.. فلا نبي في أمته. والكلمات إذا لم تهاجر من معناها الأصلي فقدت أبداعها فكلمة ربيع على سبيل المثال معناها الاصلي هو «فصل الربيع» ولكن تذهب إلى أماكن أخرى لتصبح فردوساً. لكي تصبح الكلمة شعراً يجب أن تهاجر معناها الأصلي. اللوحة إذا لم تذهب نحو الرمزية والتأويل خسرت عمقها. المهاجرون لو لم يخرجوا من أوطانهم لما كانوا اكتشفوا ذواتهم الحقيقية، وهكذا تُصقل شخصياتهم. وأدعو المهاجرين إلى أن يتذكروا دائماً أن هناك ما ينتظرهم في الوطن الأم، وأن هناك ينابيع خلفوها وراءهم وأشجاراً بانتظارهم كانت تهرب إلى الوراء حين كانوا يتقدمون بسياراتهم للرحيل، واختم ببيت للشريف الرضي:
«وتلفّتت عيني، فمُذ خفيَت عنها الطلول تلفت القلب».
Leave a Reply