محمد العزير
في مثل هذا الأسبوع عام 1984، كان العرب الأميركيون في ميشيغن، وهم في انطلاقة العمل المؤسسي لكيانهم الوليد، على موعد مع حدث، لم يثر في حينه ضجيجاً ولم يلق صدىً يليق بما ستحمله الأيام لمولود جديد في الميدان العام؛ العدد التجريبي، الذي يصطلح على تسميته بلغة المهنة، العدد «صفر» من صحيفة «صدى الوطن»، التي تدخل مع عددها هذا سنتها الثامنة والثلاثين، دون أن تفقد الدهشة التي حملها العدد التجريبي.
سبعة وثلاثون عاماً من العمل الدؤوب، ولا تزال هذه التجربة المميزة مثار لهفة للقراء الذين، مهما تفاوتت آراؤهم السياسية فيها وبناشرها ورئيس تحريرها الزميل الأستاذ أسامة السبلاني، يرون فيها مهنية واحترافاً والتزاماً لم تدم لأية مؤسسة إعلامية مطبوعة أو مرئية أو مسموعة، خصوصاً في حاضرة العرب الأميركيين، منطقة ديترويت في ولاية ميشيغن.
كان العدد التجريبي الذي صدر في السابع من أيلول عام 1984، تجريبياً بكل ما للكلمة من معنى. أسامة علي السبلاني مهندس شاب حقق النجاح المهني بسرعة بعد تخرجه مهندساً كهربائياً من جامعة ديترويت سنة 1979، ليصبح نائباً لرئيس شركة معروفة لتصدير المعدات والآلات الكهربائية للمصانع، وصديقته ماريانا كاي كيندل الممرضة الجميلة ذات الشعر الأحمر، جمعتهما الصداقة والحرص على الناس والدفاع عن القضايا المحقة. كان الاجتياح العدواني الإسرائيلي للبنان صيف 1982، وما خلفه من ضحايا ودمار، خصوصاً مجزرة صبرا وشاتيلا النكراء، ومحاولات الإعلام الأميركي المستميتة لتبرير العدوان والتعتيم على الإجرام الذي هزّ إسرائيل نفسها لكنه لم يؤثر في الدعم الأميركي الرسمي والإعلامي والشعبي الأعمى لكيان الاحتلال، نقطة انطلاق الصديقين للقيام بـ«شيء ما». الرسائل المتكررة إلى الصحف المحلية والوطنية لم تجد طريقها للنشر، الاتصالات مع المسؤولين المنتخبين ومؤسسات المجتمع المدني نزلت على آذان صماء، والعرب الأميركيون حديثو العهد بالعمل العام، والحذرون عموماً من «توريط انفسهم» في قضايا لا ترضي الرأي العام، لم يكونوا في وضع يسمح لهم بالتحرك الفعّال، ولم تلق التحركات الطلابية اليتيمة أي اهتمام او تغطية.
بلا خبرة إعلامية أو صحفية سابقة، وبلا موارد مالية معتبَرة يمكن من خلالها إطلاق مشروع إعلامي طموح، وبقليل من الأصدقاء القادرين على استيعاب أهمية الخطوة، لكن بكثير من التصميم والعزيمة، قرر أسامة وكاي خوض التجربة والمغامرة في ميدان مجهول المسالك معروف الأهداف بالنسبة لهما، فكانت «صدى الوطن» صحيفة العرب في أميركا الشمالية.
ومنذ العدد الأول كان على «صدى الوطن» أن تحارب على أكثر من جبهة دفعة واحدة دون أن تنسى يوماً واحداً قضية فلسطين.
عندما أيقن المعنيون والمهتمون أن «صدى الوطن» باقية، انتقلوا من موقف اللامبالاة إلى تكتيكات أخرى. البعض حاول احتوائها ببضعة إعلانات أو اشتراكات، آخرون شنوا عليها حروب هوية… لماذا جريدة العرب وليست جريدة لبنان، وبالتفضيل لماذا لا تكون جريدة مذهب ناشرها؟… أتذكر حين التحقت بــ«صدى الوطن» في السنة الأولى من عمرها أن أحد القراء العقائديين دأب على زيارة مكاتب الجريدة مرة في الأسبوع على الأقل ليجادل أن هويتنا القومية هي سورية وليست عربية.
التزام الصحيفة بقضية فلسطين سهّل للمغرضين والمضللين اتهامها بالتمويل «العرفاتي»، وموقفها الرافض لحصار العراق سهّل لآخرين اتهامها بالتمويل «الصدامي».
تعرضت «صدى الوطن» لعثرات مالية أجبرتها على التوقف عن الصدور أحياناً، لكن أسوأ ما تعرضت له هي المعاملة البدائية التي تنتمي إلى سلوك التجبر في الوطن الأم. قامت منظمة عربية أميركية كبيرة مرةً بمصادرة أعداد صدى الوطن ومنعتها من التداول أثناء انعقاد مؤتمرها الوطني العام، لأن في الصحيفة مقال ينتقد تلك المؤسسة التي –ويا لمحاسن الصدف– تدافع عن الحقوق المدنية والقانونية للعرب الأميركيين. ومرات أخرى جرى جمع أعداد الصحيفة من المحلات التي توزع فيها لترمى في القمامة لأن فيها خبراً لم يرُق لمتنفذٍ أو مدافعً عن سياسي ملهم في الوطن الأم.
في حالات كهذه كان من السهل على الصحيفة وناشرها أن تشتكي وتقاضي الفاعلين وفي كل مرة كان القرار أن لا ربح أبداً من نشر «غسيلنا الوسخ» على حبال الغربة. أما أحقر ما تعرضت له فهو قيام أحد حديثي النعمة بشراء مبنى كانت الصحيفة تستأجر مكاتب منه، ولم تكن قادرة على تسديد إيجاره في الأزمة الخانقة التي تبعت حرب الخليج الأولى عام 1991، وقيامه بإتلاف ورمي سنوات من أرشيف الصحيفة انتقاماً من ناشرها الذي لم يبخّر له ويدعمه.
لم يمض وقت طويل حتى تفرغ أسامة وكاي للعمل في الصحيفة. الحدث الأول الذي تبع ذلك اضطرارهما لبيع البيت الذي كانا يملكانه لمواصلة تمويل الصحيفة. كان العمل أشبه بالتطوع في جمعية خيرية تعمل في منطقة منكوبة، وكان على «صدى الوطن» أن تنمو وتتطور مع التطور التقني المتسارع الذي يتطلب آلات ومعدات وتقنيات جديدة وزيادة في عدد النسخ ومصاريف البريد، وما يتبع ذلك من ازدياد الحاجة إلى موارد موجودة لكنها غير مستعدة حتى لدفع قيمة اشتراك. كان رأسمال أسامة وكاي الأول العناد، لكن هذا العناد الدؤوب أثمر، انتبه المخلصون والمهتمون إلى ضرورة وجود «صدى الوطن» وإلى أهمية الدور الذي يلعبه ناشرها، مثلما انتبه المعلنون الأميركيون إلى أهمية السوق العربية الأميركية التي تغطي مساحتها الصحيفة العربية الأوسع انتشاراً في ميشيغن والولايات المتحدة.
من حق من يقرأ هذا المقال أن يعتقد أني لا أزال أعمل في «صدى الوطن» التي كانت سبب هجرتي إلى الولايات المتحدة. لكن الصحيح أني عملت في الصحيفة بشكل متقطع لحوالي عشر سنوات، وبعدها كانت لي تجربتي الخاصة في إصدار صحيفة «العربي الأميركي» (1997–2002) والتي حولتني عملياً إلى منافس لرئيسي السابق. علمتني هذه التجربة أمرين؛ الأول أن أصدار صحيفة محترفة في سوق إثنية صغيرة ومفعمة بالصراعات ليست استثماراً مرغوباً ولا يستقيم إن لم يكن صاحبه يملك عناد الزميل الصديق أسامة، وأنا لا امتلك ذلك. والثاني أن أسامة نزيه في تعامله مع الناس ومؤتمن على «سر المهنة» وهي مهنة الأسرار.
في الذكرى السابعة والثلاثين لصدور «صدى الوطن» والسادسة والثلاثين لالتحاقي بها، ومع كل الملاحظات الممكنة والواردة على بعض السياسات والمواقف، أشعر باعتزاز أني كنت من بناة المداميك الأولى في هذا الصرح الذي أثبت قدرته على البقاء، وفي المقابل أشعر بغصة لرحيل الزميلة التي علمتني الإنكليزية وعدم الركون إلى «المصادر المسؤولة»، كاي السبلاني التي فقدناها عام 2013، وقبل أن ترى ثمار جهودها ناضجة، وترى «صدى الوطن» تتحول لسنوات إلى المؤسسة الأكثر حضوراً وحيوية ونشاطاً في أوساط العرب الأميركيين.
Leave a Reply