.. ونذهب إلى مشاهدة البرامج الحوارية كالذاهبين إلى حلبة صراع الديكة، كالمقامرين والمرابين، حيث للخسارة طعمها المرير، وحيث المناقير والأظافر الحادة لا تكفي للإثارة، فيتم تسليح الديوك بشفرات حادة، أو بمخالب معدنية، جاهزة للقطع والبت والإجهاز. لم تعد البرامج الحوارية وقتا لاستكشاف الحقائق واستجلاء المواقف ووجهات النظر، بل صارت مسارح للمكيدة، والمعارك المستعارة، والمشاهدون لا يواظبون على متابعة هكذا برامج للاستماع لوجهات النظر الأخرى، بل للتمتع بذبح الخصم وهزيمته.
قد يكون من الممتع أحيانا مشاهدة ديكين يتصارعان، فهذا النوع من الألعاب بعيد الجذور في بعض الحضارات، ويغذي نزعات غريزية لدى الإنسان، حتى أنه كان تقليديا اجتماعيا لدى الصينيين القدماء يعود تاريخه إلى آلاف السنين، لكن المسألة تأخذ أبعادا تراجيدية حين تصبح هذه “اللعبة” تقليدا تلفزيونيا عربيا، في خضم الكارثة التي تحيق بهذا البلد العربي أو ذاك.
ومن النادر ألا نجد، نحن العرب، مسألة أو قضية أو نقاشا، لا يأخذنا إلى الحلبة مباشرة، وهذا الأمر لا يعني إلا شيئا واحدا فقط، وهو أننا مختلفون ومنقسمون حتى النخاع. لا ثوابت في حياتنا الشخصية أو الوطنية أو العامة. كالديوك.. يمكن للحرب أن تنشب بيننا في أية لحظة، ولأتفه سبب. والأدهى من ذلك، أننا كالديوك، مرة أخرى، نفعل ذلك بزهو، فرحين بألواننا البراقة. ومع أنه لا يليق بالديك أن تكون مملكته مزبلة، إلا أنه في النهاية كل ديك في حظيرتنا يريد أن يصيح على هواه، فوق مزبلته وفوق مزبلة الجيران أيضاً.
المرير.. أنه في كل لعبة توجد قواعد وتقاليد، بما فيها ألعاب صراع الديكة نفسها، ما عدا ألعابنا البهلوانية في الانحياز السياسي وإدارة الحياة الشخصية. كل شيء مباح وجائز، لدرجة أننا لا نحتذي إلا المحاذير والمحظورات، التي علينا أن نتجنبها منطقيا أو أخلاقيا أو ذوقيا. الضرب تحت الحزام مفضل ويثير غريزة الجمهور والمشاهدين ومقدم البرنامج أيضاً. والبث على مدار الساعة، ويفضل أن يكون في أوقات السهرة حيث من المفترض أن يجتمع أفراد العائلة. ولا معنى لهذه الحقيقة: كان الصينيون يدربون ديوكهم على القتال، وقد اختاروا يوما واحدا في السنة لإقامة هذه اللعبة، هو اليوم الثاني من الشهر القمري الأول حسب التقويم الصيني. عندنا.. الديوك يتصارعون على مدار السنة!
وهذه اللعبة التي كانت وسيلة لقتل الفراغ صارت تقليدا وطقسا يوميا لقتل بعضنا البعض. ورغم أنها كانت لعبة شائعة في الهند والصين وبلاد فارس واليونان وبلدان الشرق الأوسط، إلا أنها انحسرت بشكل كبير، ولم تعد لعبة شعبية إلا في بعض بلدان أميركا الجنوبية. وليس السبب في ذلك، إدراكنا لعبثيتها ووحشيتها، ولكن لأنها لم تعد ترضينا، فقمنا باستبدالها بحروبنا ومناحراتنا اليومية، لنحل مكان الديوك المتصارعة والمتذابحة. تلك اللقطة.. حين يغادر الجمهور المدرجات والأرائك وكراسي المقهى، ويقرر دخول الحلبة ليصبح جزءا من النزال والحرب والصراع!
والديوك كثر. في الدين والسياسة والوطنية والاجتماع والرياضة والعصبيات المناطقية والطائفية والقومية. ديوك على مد النظر والسمع، جاهزون للصياح ونفخ الأوداج والهجوم. ديوك في الصباح والمساء. في السر والعلن.
وهناك مراهنون كثر. ثمة من يراهن بأمواله، أو بحياته، أو بأيمانه، مع ذلك، فشؤوننا ليست مجرد مواضيع تخضع لمنطق الصح والخطأ، أو الربح والخسارة. هي دائما وغالبا وأبدا، مسائل حياة أو موت.
في رواية “ليس للكولونيل من يكاتبه” لغارسيا ماركيز، يبدو الديك شخصية مثيرة للشفقة، وعلى مدى صفحات الرواية يبدي الكولونيل العجوز والمتقاعد هجسا منقطع النظير بديك ابنه الذي قتل على إثر إحدى المراهنات. يجوع الكولونيل وزوجته المريضة ويصر العسكري القديم على إطعام الديك. يفكر القائد المنسي والمهمل ببيع مقتنيات بيته ويصرعلى الاحتفاظ بالديك.
في النهاية، لم يبق إلا الديك.. للكولونيل الذي لا يراسله أحد!!
Leave a Reply