وليد مرمر
تمخض الجبل فولد فأراً…
هذا هو ملخص إعلان ترامب الذي سمّي بصفقة القرن، والذي طاب لبعض الإعلاميين تسميته ببصقة القرن، أو صفعة القرن!
في بدء ولايته عين ترامب صهره، اليهودي الأورثوذكسي اليميني جاريد كوشنيير مستشاراً له، وسلمه ملف القضية الفلسطينية. وعمل كوشنير منذ اليوم الأول مع مساعديه من أجل تحقيق هدفين أساسيين: الأول تقزيم القضية الفلسطينية وتحويلها إلى مسألة اقتصادية بحتة، والثاني هو إنهاء النزاع العربي–الإسرائيلي وتحويله إلى نزاع فلسطيني–إسرائيلي بحت.
لقد فشل كوشنير فشلاً ذريعاً في تحقيق هدفه الأول رغم ورشة البحرين المضحكة، لكنه نجح في هدفه الثاني بعزل القضية الفلسطينية عن حاضنتها العربية!
ومن لديه أدنى شك، فليراجع المواقف العربية التي أتبعت صفقة القرن وسيرى أن أقل ما يقال فيها إنها مواقف خانعة، إلا من رحم ربي، تدعو بأعمها الفلسطينيين إلى قبول الصفقة الصفيقة وعدم تضييع هذه الفرصة الذهبية! ولعل موقفي السعودية «حامية العروبة والإسلام»، ومصر «أم الدنيا»، كانا أكثر المواقف وضوحاً في هذا الشأن! أما موقف عاهل الأردن فلم يكن سيئاً بإشارته إلى القرارات الدولية بشأن حل الدولتين وفق حدود الرابع من حزيران 1967. ولعل أحد أكثر الموقف المتقدمة كان موقف رئيس وزراء لبنان الذي أعلن أن «القدس ستبٍقى هي البوصلة وفلسطين ستبقى هي القضية»!
كان بارزاً تطوع بعض العرب في حضور الإعلان عن الصفقة في البيت الأبيض، وبحضور نتنياهو نفسه، الذي طلب من ترامب أمام الكاميرات أن يذكر أسماء الدول العربية التي أرسلت ممثلين عنها، ليستطيع شكرها عندما يعتلي المنبر: الإمارات العربية المتحدة والبحرين وعمان!
يا ليت الكاميرات توجهت إلى تلك الوفود لتسجل وتوثق تصفيقهم لدى إعلان ترامب أن القدس ستبقى العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل اليهودية، أو تهليلهم لدى إعلان نتنياهو أنه لن يعود لاجئ واحد من الشتات إلى الداخل، أو انبساط أساريرهم لدى تبجح ترامب باعترافه بالجولان كأرض إسرائيلية!
لقد تحول النظام السياسي العربي بقيادة السعودية إلى شاهد ملك وليس شاهد زور، على اغتصاب الحق الفلسطيني والعربي، بل ومشارك مشجع ومهلل ومصفق لكل هذا العهر السياسي والدنس الإعلامي من دون أدنى خجل أو تحرّج أو تورية.
ولقد شكر ترامب، نتنياهو على «التنازلات» الجمة التى قدمها من أجل إتمام الصفقة. وليت شعري ما هي هذه التنازلات التي قدمها، وليته ذكر تنازلا واحداً فقط!
بالعودة إلى بنود العرض الترامبي يتضح أن الدولة الفلسطينية الموعودة ستقوم على أشلاء ما تبقى من الضفة الغربية بعد زرع المستوطنات السرطانية في كل أنحائها. أما إسرائيل فستضم غور الأردن، وكل المناطق الحدودية مع الأردن المتاخمة لنهر الأدرن والبحر الميت! ولن تفكك إسرائيل أية مستوطنة مهما كان موقعها.
لقد أعلن نتنياهو وبكل وضوح أن المبادرة لن تطلب من أي مواطن إسرائيلي أو فلسطيني مغادرة بيته أو أرضه. وفي هذا هرطقة بيّنة. فليس ثمة فلسطيني محتل لأرض إسرائيلية بل العكس هو الصحيح. لذا فقد كان الأولى التصريح بأنه لن يطلب من أي مواطن إسرائيلي مغادرة بيته أو مستوطنته. وإنما ذكرت الصفقة الفلسطينيين بالمقابل لتعمية الأمر على المراقبين وللإيحاء بأن هذا الإجراء يفيد الطرفين! وسيتم ضم جميع منطقة القدس غربيها وشرقيها إلى إسرائيل، وأما ما تبقى من الدويلة الفلسطينية فبأمكانها أن تحول مخيم شعفاط الواقع خارج مدينة القدس عاصمة لها!
وبحساب اقتطاع غور الأردن والمستوطنات والقدس فإنه يكون قد اقتطع من ثلاثين إلى أربعين بالمئة من أراضي الضفة التي تشكل 22 بالمئة من فلسطين فلا يتبقى لهم من أرضهم التاريخية سوى 14 بالمئة في أحسن تقدير، وهي بمعظمها مناطق أشبه بجزر مقطعة بالمستوطنات اليهودية.
لكن ما هو المقابل الذي عرض على الفلسطينيين للقبول بهذه الصفقة–المسخ؟
إنه وعود. نعم، مجرد وعود باستثمارات سوف تبلغ قيمتها خمسين مليار دولار ستقوم الدول الخليجية بتأمين معظمها! وبذلك تكون أسرائيل قد سجلت الانتصار تلو الآخر من دون أي تنازل يذكر ولو حتى من قبيل حفظ ماء الوجوه العربية الكالحة.
لقد وصف الشاعر الكبير مظفر النواب حال العرب وخيانتهم للقدس منذ 1948 مروراً بهزيمة 1967 بقصيدة خالدة يتساءل فيها ساخراً، غامزاً من قناة الحكام العرب: «من باع فلسطين؟…»، ثم يقول: «القدس عروس عروبتكم، فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟».. ولكن صفقة القرن قد أوصلت الخنوع العربي إلى مرحلة أصبح حتى شعر مظفر النواب قاصراً عن وصفه! فلقد أهدى الأعراب فلسطين والقدس إلى إسرائيل ولم يبيعوها! لقد تخلى محور الانبطاح العربي بقيادة آل سعود عن وريقة التوت الأخيرة التي كانت تغطي عورة الأنظمة العفنة، وأكد بانحيازه الماجن لصفقة ترامب أن هذا المحور تجاوز مرحلة الأنحطاط والانبطاح إلى مرحلة التواطؤ والتآمر على واحد من أقدس مقدسات الأمة وهي القدس.
لقد تقيأ ترامب وحليفه نتنياهو بعض بنود مبادرتهما على أوجه النظام العربي الرسمي الذي لم يمسح القيء بل انحنى أمام سيديه مباركاً لهما صفقتهما الهجينة!
«أصرخ فيكم»، قال مظفر النواب،
«أصرخ أين شهامتكم؟
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
ان كنتم عرباً… بشراً… حيوانات
فالذئبة… حتى الذئبة
تحرس نطفتها
والكلبة تحرس نطفتها
والنملة تعتز بثقب الأرض
وأما أنتم
فالقدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل
إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الابواب
لصرخات بكارتها».
لكن، وبموازاة محور الانبطاح والخنوع كانت هناك في شمال الوطن العربي وجنوبه بقية باقية ممن رفعوا الممانعة شعاراً ونهجوا المقاومة خياراً. وما فتئوا يسطرون ملاحم البطولة تلو الأخرى.. ففي سوريا سطر الجيش العربي السوري ملحمة أسطورية بتحريره معرة النعمان بالغة الأهمية الاستراتيجية لدمشق وحلب وإدلب، مع عشرات القرى في ريف إدلب الشرقي والغربي من المجموعات التكفيرية مما دفع حتى المحطات «الثورجية» إلى الاعتراف بالهزيمة النكراء. ويعتقد بعض المراقبين أن هذا النصر ربما يكون من أهم الانتصارات الميدانية للجيش العربي السوري منذ بدء الحرب إن لم يكن أهمها على الإطلاق!
أما جنوباً، ففيما كانت الإمارات والسعودية تعدان العدة لشن الهجوم الأكبر على مدينة صنعاء بواسطة عشرات آلاف المقاتلين من قوات هادي وميليشيات «الإصلاح» وفلول المرتزقة (قدرته بعض المصادر بـ45 ألف مقاتل ينضوون في عشرات الألوية والكتائب) وبإسناد جوي من قبل طيران التحالف، قامت قوات الجيش واللجان (الحوثيون) بهجوم مباغت معاكس أطلق عليها اسم «البنيان المرصوص» أدى إلى تحرير مناطق «نهم» كافة ووصلت إلى مدينة مأرب وحررت مديريات عدة في محافظتي مأرب والجوف بمساحة إجمالية وصلت إلى 2500 كلم مربع، مكبدة القوات المعادية خسائر فادحة بالأرواح والعتاد إضافة إلى أسر المئات منهم، كما قامت اللجان، وكرد على التصعيد الجوي بتنفيذ هجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة استهدفت شركة «أرامكو» في جيزان ومطارات ومناطق حساسة في العمق السعودي.
ولعل الأسبوع المنصرم شكل علامة فارقة في سجل انتصارات محور المقاومة والممانعة ولم يكدره إلا إعلان صفيق، عن صفقة أقل ما يقال فيها أنها لا تستحق الورق الذي كتبت عليه!
Leave a Reply