بين إراقة الدم الفلسطيني والضغط على محور المقاومة
إذا ما احتاج المرء إلى توصيف مختصر لما يجري في فلسطين، فلن يجد سوى عبارة «انقلاب فاجر».
الكلمة ذاتها باتت موضع حديث الأميركيين حين يتعلق الأمر بالخطوات المتلاحقة التي يقدم عليها دونالد ترامب، سواء في ما يتعلق بالسياسة الداخلية، حيث يدور الحديث عن «انقلاب على إرث باراك أوباما»، أو السياسة الخارجية، التي يمكن اعتبارها «انقلاباً على كل السياسات»، حتى تلك التي كانت توصف بالأكثر تطرّفاً ومحافظة، كما كانت الحال في عهد الرئيس جورج بوش الابن.
من إيران إلى كوريا الشمالية، مروراً بأوروبا وروسيا، يسير دونالد ترامب بخطى «متهوّرة»، تنطلق من ذهنية «مقاول» أو «سمسار» أكثر منه رجل سياسة، على نحو بات يشكل إرباكاً لحلفاء أميركا التاريخيين، الذين يتسابقون اليوم إلى استرضاء روسيا، العدو اللدود، لانقاذ ما يمكن إنقاذه من «سلام نووي» حلّ، قبل ثلاثة أعوام، برداً وسلاماً على الاقتصاديات الأوروبية، التي دفعها قرار الانسحاب الأميركي من «تسوية فيينا» نحو تخوم الجحيم.
لا يكترث ترامب بمصالح حلفائه، طالما أن شعار «فلنجعل أميركا أقوى» يتطلب، بنظره، تقويض الجميع، وهو ما يجعل قادة أوروبيين مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أو الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، يعيدون النظر في خياراتهم الاستراتيجية، والقبول، بشكل مبدئي، في «حوار تاريخي» مع روسيا، التي يرفع رئيسها فلاديمير بوتين شعار «الشراكة» بدلاً من «الإقصاء».
المثير للغرابة في هذا الإطار، أن تحرّكات ترامب لا تأخذ في الحسبان ما يمكن أن تحدثه استدارة تاريخية لحلفائه، الذين بلغت خلافاتهم مع الولايات المتحدة مستوى غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.
الضغط على إيران
يواصل ترامب التصعيد مع إيران، برغم الجهود الدبلوماسية التي يبذلها الأوروبيون لإنقاذ الاتفاق النووي، وهو ما عكسته آخر التصريحات الصادرة عن وزير خارجيته جورج بومبيو – القادم من المؤسسة الأمنية (سي أي آي)، والذي توعّد قبل أيام الجمهورية الإسلامية بعقوبات «غير مسبوقة»، قال إنها «قد تكون الأقسى في التاريخ» في حال لم تستجب طهران لـ١٢طلباً أميركياً تم الإعلان عنها الأسبوع الماضي.
الملفت للانتباه، في كلام بومبيو، أن تلك العقوبات «غير المسبوقة» لا تقتصر على «الملف النووي» الذي تزعم الولايات المتحدة، بتحريض إسرائيلي مزيّف، أنه يتجه نحو «العسكرة»، بل امتد إلى ملفات إقليمية أخرى، استنسخ فيها الوزير الأميركي، خطاب بنيامين نتنياهو لجهة ضرورة «انسحاب إيران من سوريا» والتوقف عن دعم «حزب الله» وحركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي».
هذا التصعيد، الذي يأتي بعبارات وعيد غير مسبوقة في مستواها منذ سنوات، بدأت تترجمه الإدارة الأميركية –بالتعاون مع وكلائها الخليجيين– بإجراءات مباشرة، قطعت الشعرة الفاصلة بين الجناحين «العسكري» و«السياسي» في «حزب الله»، على سبيل المثال، من خلال فرض عقوبات على قياديي «مجلس الشورى» في الحزب، في ما يمكن وصفه بـ«إعلان حرب» معلّق على لبنان، مترافقاً مع إجراءات استفزازية مشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل في الميدان السوري، تارة من خلال الغارات الجوية، وطوراً من خلال الهجمات المشبوهة بالطائرات من دون طيار، التي تقترب من إثارة غضب «الدب الروسي».
فلسطين
وأما أكثر أوجه التصعيد خطورة، فتتمثل في ما يجري في فلسطين المحتلة، بعد مضي ترامب في وضع قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، في سياق عملي، من خلال الافتتاح الرسمي للسفارة الأميركية في المدينة المحتلة.
هذا الإجراء الخطير، أحاطته إسرائيل والولايات المتحدة بسلسلة من الخطوات «الفاجرة»، بدءاً من إراقة دماء الفلسطينيين، الذين اختاروا المقاومة السلمية عند الشريط الأمني بين قطاع غزة والأراضي المحتلة في العام 1948، مروراً بتحدّي المجتمع الدولي من خلال طرح خطط لبناء 3900 استيطانية جديدة في الضفة الغربية، وصولاً إلى نشر السفير الأميركي في إسرائيل صورة له وهو يتسلم لوحة يظهر فيها بناء لهيكل سليمان المزعوم مكان قبة الصخرة، في ما يمثل إشارة عنصرية وتحريضاً إجرامياً على هدم المسجد الأقصى، وتبنّياً لمزاعم المتطرفين اليهود وخزعبلاتهم الخرافية حول القدس.
هذا الفجور الأميركي–الإسرائيلي، والذي لم يعد خافياً تأييد الخليجيين له، بات يضرب عرض الحائط حتى الأطراف الدولية التي غالباً ما قاربت الملف الفلسطيني ببعض من «البراغماتية»، وهو ما تبدّى بشكل خاص في أن يدعو الوزير الإسرائيلي يوفال شتاينتس الأوروبيين إلى «الذهاب إلى ألف جحيم»، رداً على انتقاداتهم لإراقة دماء الفلسطينيين على أيدي الجنود الإسرائيليين.
وليس خافياً أيضاً أن كل هذه الموافق التصعيدية، تندرج في إطار «الصفقة الكبرى» التي يبدو أن الولايات المتحدة وإسرائيل عازمتان على تمهيد طريقها بالدم الفلسطيني، والتي باتت تعرف إعلامياً بـ«صفقة القرن»، وقوامها تصفية القضية الفلسطينية كلياً، من خلال «إقفال» آخر ملفين يعيقان «التسوية»، وهما القدس، التي غيّرت الولايات المتحدة وضعيتها القانونية بجرة قلم من خلال قرار نقل السفارة، واللاجئين، الذين يجري العمل وفق «الصفقة» هذه على إنكار حقهم بالعودة من خلال توطينهم في دول الجوار، أو حتى تهجيرهم «طواعية» إلى بلاد بعيدة، من خلال مفاقمة أوضاعهم المعيشية في الدول العربية المضيفة.
الجولان
ولكن الأمر لا يقتصر فقط على الشق الفلسطيني، ففي غمرة الاحداث الدراماتيكية الجارية في الأراضي المحتلة، وفي ظل صمت عربي، عنواناه العجز والتآمر، كشفت التصريحات الأميركية–الإسرائيلية، خلال الأيام الماضية، عن خطة أكثر خطورة يجري العمل على فرضها من خلال تغيير الوضعية القانونية للجولان السوري المحتل.
هذه الخطة، اتضحت معالمها في كلام وزير الاستخبارات الإسرائيلي إسرائيل كاتس الذي أشار إلى أن الإقرار الأميركي بسيطرة إسرائيل على الجولان، والقائمة منذ 51 عاماً، هو مقترح «يتصدر جدول الأعمال» حالياً في المحادثات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة.
ولا شك في أن خطوة كهذه لا يمكن النظر إليها سوى في سياق المتابعة لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الدولي مع إيران واعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وفتح السفارة الأميركية في المدينة المحتلة، فوفقاً لما صرّح به الوزير الإسرائيلي فإنّ «هذا هو الوقت المثالي للإقدام على مثل هذه الخطوة: الرد الأشد إيلاماً الذي يمكن توجيهه للإيرانيين هو الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان»، من خلال بيان أميركي أو إعلان رئاسي أو مشروع قانون.
ليس ما قاله الوزير الإسرائيلي معزولاً عن المناخ العام في الكونغرس، حيث يقود عضو مجلس النواب الأميركي، رون ديسانتيس، إلى إقرار إعلان بروتوكولي يزعم كون هضبة الجولان السورية المحتلة جزءاً من إسرائيل.
ولمزيد من الرمزية، فإنّ ديسانتيس (جمهوري عن ولاية فلوريدا)، كان حاضراً في حفل نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، وقد صرّح فور عودته إلى واشنطن بالقول «وضعت أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، الخميس الماضي، مشروع إعلان بروتوكولي للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، ويتوقع أن يلقى دعماً كبيراً في الكونغرس».
النائب الأميركي ذهب بعيداً في تفسير حيثيات الخطوة المرتقبة، وهي أنه «لا يجب الضغط على إسرائيل في أي سيناريو مستقبلي للتنازل عن الجولان لبشار الأسد أو لإيران، نظرا لأهميتها الاستراتيجية»، مشيراً إلى أنه برغم الحديث عن إعلان بروتوكولي، فسيتم إقراره بدعم كبير، ليشكل دفعة للإدارة الأميركية، للتفكير بشأن إن كانت ستعترف بسيادة إسرائيل على الجولان أم لا»!
بذلك تكتمل قطع «البازل» في المشهد الإقليمي. كل الطرق تؤدي إلى «صفقة القرن»، وما جرى خلال سنوات ما سمّي يوماً بـ«الربيع العربي» حيّد عملياً أي دور فاعل يمكن للأنظمة العربية القيام به، ولو شكلياً لكبح الطموحات الإسرائيلية–الأميركية، سواء بمحاولة تفكيك الدول الممانعة وتدميرها، أو بجرّ الأنظمة المتخاذلة إلى وكر التآمر… وإذا كان قد تحقق بنسب متفاوتة، فالحجر العثرة أمام استكمال المشروع يتطلب تقويض أيّة مقاومة له، وهذا ما يفسر الكثير الكثير، حين يتعلق الأمر بمحاولات تقويض قدرات إيران، ومحاصرة حركات المقاومة، وفي مقدّمتها «حزب الله»، وإراقة دماء ما يمثله الفلسطينيون من حالة مقاومة خاصة، حتى في سلميتها.
Leave a Reply