مقابل توطين الفلسطينيين والتنازل عن الحقوق
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم تشكّل «صفقة القرن» التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتسوية الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي مفاجأة، بل سبق وأن ظهرت تفاصيلها تدريجياً، ابتداءً من نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس وإعلانها بها عاصمة للدولة اليهودية، ثم بالاعتراف الأميركي بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة التي عملت إسرائيل على تهويدها منذ ضمها رسمياً عام 1981.
بل ذهبت «صفقة القرن» إلى حد رفض حق العودة للفلسطينيين، وتشريع المستوطنات اليهودية بالرغم من تعارضها مع اتفاق أوسلو، حيث أقرت خطة ترامب للسلام بأحقية «الدولة اليهودية» بتلك الأراضي متماشية مع النظرية الصهيونية القائلة بأن «فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وأن فلسطين لليهود بموجب وعد إلهي بأرض الميعاد التي بدأوا العودة إليها، بعد وعد بلفور عام 1917، مروراً بقيام الكيان الغاصب 1948، وتقسيم فلسطين إلى ضفتين شرقية وغربية، الأولى تحت السيادة الإسرائيلية، والثانية يرعى شؤونها الأردن، فيما وضعت غزة تحت السلطة المصرية.
خطة ترامب، لا تقتصر على هضم حقوق الفلسطينيين والسوريين في أرضهم، بل حملت في طياتها أيضاً استلاباً لحقوق اللبنانيين.
أين لبنان من الصفقة؟
لـ«صفقة القرن» انعكاسات سلبية عديدة على لبنان، فهي تشير إلى الأراضي المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من مدينة الغجر، على أنها من ضمن الأراضي الإسرائيلية وهي تمّ احتلالها في حزيران العام 1967، ولا يزال لبنان يطالب باستردادها، وفق قرارات مجلس الأمن الدولي 242 و425 و1701.
وبينما يطال لبنان بترسيم الحدود البرية مع فلسطين المحتلة، ترفض إسرائيل ذلك، وقد أقدمت على اقتطاع أراضٍ واسعة من جنوب لبنان بعد انسحابها، حيث حاولت الأمم المتحدة ترسيم الحدود، بعد تحرير الجنوب عام 2000، إلا أن الكيان الصهيوني خرق الخط الأزرق الذي أقامته القوات الدولية ليتحفظ لبنان على 13 نقطة تمتد من رأس الناقورة غرباً إلى مزارع شبعا شرقاً.
وبحسب «صفقة القرن» المقترحة، ستقتطع إسرائيل تلك الأراضي اللبنانية المحتلة، وتضمها إليها، كما حصل في الجولان والضفة الغربية، رغم أن المقاومة كانت قد قطعت عهداً بتحريرها ولو بقوة السلاح.
التوطين
في الصفقة أيضاً، يبرز موضوع الشتات الفلسطيني الذي يرفض «مشروع ترامب للسلام» عودتهم إلى وطنهم الزم، ويطالب بأن يبقوا ويوطّنوا حيث هم، وهو ما يتعارض مع لبنان دستورياً وسياسياً وشعبياً.
وقد سعت إسرائيل في مراحل سابقة إلى توطين الفلسطينيين، عبر مشاريع أميركية، منها ما قدّمه وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر، والذي مهّد للحرب الأهلية في لبنان، بعدما قدم عرضه للرئيس سليمان فرنجية في العام 1975، بالقبول بتوطين الفلسطينيين، لكنه رفض، فكان الثمن اشعال فتنة داخلية بدأت مع المنظمات الفلسطينية التي انضمّ إليها حلفاء لبنانيون لها، بمواجهة اليمين المسيحي بقيادة «حزب الكتائب»، لتتوسّع الحرب ويحصل فيها عدوانان إسرائيليان على لبنان في العام 1978 و1982، للقضاء على المقاومة الفلسطينية، وتسهيل قيام سلام بين لبنان والدولة العبرية، وهو مهّد له الرئيس المصري أنور السادات بزيارة القدس، وعقد اتفاقية «كامب دايفيد».
ومع كل مشروع أميركي–إسرائيلي لتسوية النزاع في المنطقة، كان حق العودة من أبرز عقد المفاوضات في ظل رفض تل أبيب المطلق لعودتهم. ولذلك كانت تقدم مشاريع توطينهم إما حيث يقيمون في دول الجوار، ولبنان إحداها، أو عبر إنشاء وطن بديل لهم مثل الأردن الذي وقع معاهدة سلام (اتفاق وادي عربة) لقطع الطريق على مشروع «الوطن البديل».
والأمر ينطبق على لبنان الذي اكتوى بالمشاريع الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، منذ استقلاله، فحصّن وضعه برفض التقسيم والتوطين في مقدمة الدستور (اتفاق الطائف)، ليمنع على أي طرف لبناني سياسياً كان أم طائفياً، التورط بمشروع التوطين، والذي قد يكون مقنّعاً بالتجنيس مثلما حصل في العام 1994، بإصدار مرسوم تجنيس مئات لا بل آلاف الفلسطينيين مما أثار اعتراض المسيحيين باعتباره إخلالاً بالتوازن الديموغرافي في لبنان مع تناقص أعداد الأقليات.
إغراءات مالية
توطين الفلسطينيين المقنّع، والمرفوض لبنانياً وفلسطينياً، قدمت له «صفقة القرن» إغراءات مالية، من خلال الإعلان عن رصد مليارات الدولارات كمساعدات لدول الجوار ومنها لبنان الذي رصد له مؤتمر البحرين الذي انعقد في نهاية حزيران (يونيو) الماضي، مبلغ 6.3 مليار دولار، لتحديث البنى التحتية على أن يستثمر بعضه في المخيمات الفلسطينية لتحسين الوضع الإنساني والمعيشي للاجئين، وتأمين حياة لائقة لهم بمسكن وتعليم وصحة وفرص عمل، بما يبعدهم عن العنف والتفكير بالعودة.
تعاقبت على لبنان أربعة أجيال من اللاجئين الفلسطينيين الذين فتحت لهم أبواب الهجرة إلى دول العالم المتقدم مثل كندا وأميركا وأستراليا وبعض الدول الإسكندنافية، حتى أن لجنة الحوار اللبناني–الفلسطيني التي يرأسها الوزير السابق حسن منيمنة توصلت في إحصائية حديثة إلى أن عدد الفلسطينيين في لبنان يقدّر بنحو 174 ألفاً فقط، وهو رقم توقف عنده كثيرون، إذ شمّوا فيه رائحة توطين أو تجنيس، مما أثار هواجس اللبنانيين بشأن اختلال التوازن الديمغرافي الطائفي، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن العدد الحقيقي للفلسطينيين في لبنان يقارب نصف مليون نسمة.
تلك المخاوف تغذيها الحالة الاقتصادية والمالية المزرية التي يعاني منها لبنان حالياً والذي قد تغريه مليارات «صفقة القرن» وهو الذي يفتش عن أموال واستثمارات سريعة لانتشال البلاد من الانهيار.
وقد سادت نظرية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، بالتزامن مع مؤتمر مدريد للسلام، بأن المنطقة قادمة على سلام، وأن على لبنان أن يتهيّأ له، بمشاريع بنى تحتية، ولو بالاستدانة، لأن السلام القادم، سيتكفّل بسداد الدين العام سريعاً، لكن الحسابات كانت خاطئة ووقع لبنان في أزمة ديون وفوائد بلغت حد الانفجار هذا العام.
غير أن «صفقة القرن» جاءت لـ«تبشّر» اللبنانيين بأن الخروج من الأزمة ممكن عبر الانخراط بالخطة الأميركية، بقبول التوطين، والتخلي عن مزارع شبعا وباقي المناطق المحتلة، وترسيم الحدود البرية والبحرية، وفق مصالح إسرائيل، والموافقة على ما رسمه الموفد الأميركي فريدريك هوف للمنطقة البحرية الخالصة، المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، والتي تحتوي على مخزونات هائلة من الغاز، وقد حصل لبنان على 500 كلم2 منها بحسب مقترح الترسيم الأميركي، لكنه رفض.
الحل النهائي
في الحقيقة، إن ما قدمته «صفقة القرن» التي عرضها ترامب مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، هي أفكار صهيونية، صاغها صهر الرئيس، جاريد كوشنير، وهي ليست إلا انتهاكاً لـ«اتفاق أوسلو» الذي وقّعه ياسر عرفات في البيت الأبيض، وترك ما سمي «بالحل النهائي» إلى مرحلة لاحقة.
وبعد سنوات من مماطلة وانتقائية إسرائيل في تطبيق «أوسلو»، جاء ترامب ليقدم صيغة «الحل النهائي» من جانب واحد بالاعتراف بالقدس عاصمة للدولة اليهودية وإسقاط حق العودة، وشرعنة المستوطنات، وبذلك يكون قد نجح في تصفية القضية الفلسطينية، عبر إخضاع جميع الأطراف الأخرى بقوة الأمر الواقع، بما فيها لبنان الذي يعيش في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة ُيضاف إليها الانقسامات الداخلية و«حراك شعبي» يفتقد للبوصلة في الساحات والشوارع.
وأمام هذا المشهد، يخشى الكثيرون أن تستغل واشنطن الوضع الراهن لفرض سياساتها عبر استغلال المطالب الاجتماعية والاقتصادية والاصلاحية المحقة، لإخضاع الطبقة السياسية أو جرها نحو صراع داخلي قد يتحول إلى حرب أهلية، كما حصل في تجارب سابقة.
فالصفقة عنوانها «الاقتصاد مقابل السلام» (وليس الأرض مقابل السلام)، ولبنان بحاجة ماسة إلى المال، فهل يجد اللبنانيون أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما؟
Leave a Reply