كمال ذبيان
فـي كل مرحلة قرّرت الإدارات الأميركية المتعاقبة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، إسقاط النظام فـي سوريا، كانت تُصاب بخيبة أمل أو تُهزم وفشلت كل محاولاتها منذ وصول الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد عبر حركة تصحيحية قام بها داخل حزب البعث العربي الاشتراكي فـي 16 تشرين 1970 ووُصفت سياسته بالواقعية ووضع سقفاً للتعامل مع الولايات المتحدة الأميركية وهو تغيير موقفها من الصراع مع العدو الإسرائيلي، وكان كلما اقترب من الحوار معها أو دخله، كان يرى ضرورة أن يكسب أميركا لصالح المسألة الفلسطينية واسترداد الحقوق القومية المسلوبة والمغتصبة من الإحتلال الصهيوني.
مدير وكالة الاستخبارات المركزية جون برينان يتحدث في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك |
ففـي خلال السنوات الخمس والأربعين من الحكم فـي سوريا الذي تولاه الرئيس الأسد ثم نجله بشار، فإن أميركا لم تكن مصنفة من الدول الصديقة لسوريا التي كان الإتحاد السوفـياتي شريكها وحليفها الفعلي وهو الذي بنى جيشها المقاتل، وساهم فـي تعزيز الإقتصاد السوري وقدّم الخبراء لها كل المساعدات الممكنة لبناء الدولة والبنى التحتية، وكانت سوريا تحاسب أميركياً وغربياً على موقفها السياسي مع الإتحاد السوفـياتي والمنظومة الإشتراكية قبل أن تنهار فـي مطلع التسعينات من القرن الماضي، وكان تأثير ذلك سلبياً على سوريا، لكنه لم يُسقط نظامها الذي كان حاجة أميركية دائمة لإستقرار المنطقة، بعد أن تحوّلت الى رقم صعب فـي المعادلة الإقليمية، وفـي علاقاتها الدولية التي عززت من موقعها، فلم يكن من السهل شطبها، وجرت محاولات عدة للتخريب عليها من الداخل عبر تحريك جماعة «الإخوان المسلمين» فـي مطلع الثمانينات من القرن الملضي التي حاولت الإستيلاء على السلطة من خلال عمل عسكري بدأ فـي حماه وحلب ومناطق أخرى استهدفت مراكز قوى الأمن وثكنات الجيش ومكاتب حزب البعث وقامت بعمليات اغتيال طالت شخصيات فـي السلطة وضباطاً فـي الجيش، كما استهدفت الخبراء السوفـيات بتفجير مقر سكنهم.
وكان تحرك «الإخوان المسلمين» العسكري، شبيهاً بما تشهده سوريا اليوم، إذ تكرّر السيناريو نفسه منذ أربع سنوات من خلال تحالف هؤلاء مع أميركا وهو ما برز مع ما سُمي «الربيع العربي» والذي ظهر فـي تونس ومصر وليبيا واليمن وشجعت عليه أميركا بدعم من دول إقليمية وعربية من أبرزها تركيا التي يحكمها «حزب العدالة والتنمية» المنبثق عن «الإخوان المسلمين»، الذي كان يسعى الى استعادة «عثمانية جديدة» عبر إيصالهم الى الحكم، وهو الفشل الذي أصابهم فـي تونس ومصر واليمن وليبيا، وهو ما نالهم فـي سوريا التي صمدت بوجه الحرب الكونية عليها لتغيير موقعها السياسي بالتحالف مع المقاومة من ضمن محور ممتد من إيران الى لبنان وفلسطين، وهو الموقف السلبي الذي تتخذه أميركا وحلفاء لها من سوريا التي تخوض نهجها المقاوم الذي سارت عليه منذ الإحتلال الإسرائيلي للبنان فـي العام 1982، وما حصل خلال هذه المرحلة من دعم قدمه النظام السوري للمقاومة التي تبناها الرئيس حافظ الأسد، وشهدت تلك الفترة صعود المقاومة الإستشهادية، وخاض حلفاء سوريا فـي لبنان عملية إسقاط إفرازات الإحتلال الإسرائيلي السياسية ومنها إتفاق 17 أيار الذي كاد الرئيس أمين الجميّل أن يوقعه لولا تصدي سوريا مع حلفائها له، والذي أعاد التوازن الى لبنان بإسقاط ما سمي «الحكم الكتائبي» المتحالف مع «إسرائيل» والولايات المتحدة فـي تلك الفترة، وتمكّنت المقاومة العسكرية من إخراج الإحتلال الإسرائيلي من بيروت ومناطق أخرى، ورحيل القوات المتعددة الجنسيات التي كانت تضم عناصر أميركية وفرنسية وإيطالية، بعد أن تمّ استهدافها بعمليات إنتحارية.
فالصدام الأميركي – السوري لم يتوقف منذ عقود، وكان الأكثر سخونة فـي الثمانينات من القرن الماضي، حيث أسقطت القوات السورية طائرة عسكرية أميركية فوق لبنان، وطلبت الإدارة الأميركية برئاسة رونالد ريغان ووزير خارجيته جورج شولتز خروج القوات السورية من لبنان، ووقف دعم المقاومة فـيه ، لكن الرئيس الأسد رفض الرضوخ للشروط الأميركية، وطالب بعقد مؤتمر دولي حول توصيف الإرهاب ورفض نعت المقاومة به، لكن الإدارة الأميركية رفضت، مما زاد من الصراع الأميركي – السوري الذي كانت له تداعياته فـي لبنان، وزاد مع الحرب الإيرانية – العراقية، حيث وقفت سوريا مع إيران ضد مغامرة الرئيس العراقي صدام حسين فـي شن هذه الحرب التي تضعف الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي غيّرت من موقفها الحليف لـ «إسرائيل» أيام عهد شاه إيران الى صديق لفلسطين والعرب، وقامت بإقفال السفارة الإسرائيلية فـي طهران واستبدالها بسفارة لفلسطين، وهو تغيير عدّل فـي موازين القوى الإقليمية وسمح بظهور مقاومة فـي لبنان أسسها «حزب الله» باسم «المقاومة الإسلامية» التي أعطت زخماً للمقاومة اللبنانية التي حرّرت أجزاءً ومساحات كبيرة من الأراضي اللبنانية المحتلة، وأكملت «المقاومة الإسلامية» تحرير الجنوب كلياً فـي 25 أيار 2000.
وما لم تستطع أميركا أن تحققه فـي سنوات الثمانينات بإنهاء المقاومة لصالح العدو الإسرائيلي، ومحاولته فـي التسعينات بجر سوريا الى حل سلمي مع «إسرائيل» عبر مؤتمر مدريد وفشل المفاوضات بسبب التعنت الإسرائيلي، فإن واشنطن وبعد الإحتلال الأميركي للعراق سعت الى ترويض النظام فـي سوريا عبر فرض شروط عليه بالخروج من محور المقاومة ووقف دعمه لـ «حزب الله» و«حماس» وقطع علاقاته مع إيران، ولما رفض فرضوا عليه قوانين دولية وقرارات أميركية تحاصره اقتصادياً، كما أصدرت أميركا وفرنسا قراراً فـي مجلس الأمن الدولي حمل الرقم 1559 لإخراج القوات السورية من لبنان فـي 2 أيلول 2004، والذي جاء اغتيال الرئيس رفـيق الحريري ليسرّع فـي تنفـيذ انسحابها ، لكن لم يكتفِ الرئيس جورج بوش وشريكه الرئيس الفرنسي جاك شيراك بذلك، بل قرّرا إسقاط النظام السوري من الداخل عبر تدبير إنقلاب عسكري، أو من خلال لجنة تحقيق دولية تشكّلت لمتابعة اغتيال الحريري، حيث زجّ اسم الرئيس الأسد فـيه، وكان القصد جرّه الى المحاكمة مع أركان نظامه، لكن هذه المحاولات فشلت أيضاً، مع صمود سوريا ومعها المقاومة أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، حيث انهزمت «إسرائيل» ومشروع بوش «للشرق الأوسط الجديد أو الكبير»، وتغيّرت لهجة الإدارة الأميركية التي ذهب النائب وليد جنبلاط ليسأل فـي واشنطن عن موقفها، فكان جواب وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، إننا لا نعمل لإسقاط النظام بل لتغيير سلوكه، وهو ما دفع جنبلاط الى القول، إن أميركا تبيع أصدقاءها، ونقل الموقف الأميركي الى حلفائه فـي قوى 14 آذار التي أسسها السفـير الأميركي فـي بيروت آنذاك (2005) جيفري فـيلتمان وصرف عليها 500 مليون دولار لإسقاط المقاومة وتشويه صورتها، فقال لهم رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي، لقد ربح «حزب الله» و 8 آذار وسوريا وإيران وانهزمنا، وقرّر إعادة تموضعه ومصالحة النظام السوري فـي العام 2009، ليعود بعد اندلاع الأزمة فـي سوريا الى التحريض على النظام والوقوف الى جانب «الثورة السورية» منتظراً جثة عدوه على ضفة النهر.
وفـي يوم مرور أربع سنوات على بدء الأزمة السورية، خرج وزير الخارجية الأميركية جون كيري بموقف يؤكّد فـيه ضرورة التفاوض والحوار مع الرئيس الأسد، فـي وقت كانت الإدارة الأميركية وصلت الى قناعة تشير الى صعوبة إسقاط النظام السوري، والأصعب تأمين بديل عنه، وأن مَن يملأ الفراغ فـي المساحات التي يخليها الجيش السوري هي الجماعات الإرهابية بعد أن كان ما سمي «أصدقاء سوريا» يعقدون الرهان على «الجيش السوري الحر» أو «القوى المعتدلة»، وأصيبوا بخيبة أمل بعدم وجود هيكل تنظيمي وسياسي موحد لهؤلاء، وصُرفت الأموال من أجل تدريب وتسليح «المعارضة المعتدلة» لكن الخطة لم تطبق، وهو ما ترك مدير الإستخبارات الأميركية جون برينان يصرحّ «بأننا لا نريد انهيار الحكومة السورية والمؤسسات التابعة لها، فـي ظل تنظيم «داعش» وحالة الصعود له، ولا نريد له السير الى دمشق ولن نسمح للجماعات الإرهابية الوصول إليها».
هذا التصريح لمدير الإستخبارات معطوفاً على موقف كيري من الحوار مع الرئيس الأسد، هو تغيير فـي سلوك المسؤولين الأميركيين تجاه النظام الذي بات حاجة أميركية وأوروبية وعالمية فـي الحرب على الإرهاب، إذ يعترف برينان عن تبادل معلومات مخابراتية مع المخابرات السورية حول الإرهاب، وهو ما أكّدت عليه دول أوروبية كشفت عن تواصل أمني مع النظام الذي لا يريد أن تبقى الإتصالات تحت الطاولة، بل يريد أن تكون فوق الطاولة وعلنية، وهذا ما أكّد عليه الرئيس الأسد عند ردّه على موقف كيري من التفاوض معه، بأنه يريد أفعالاً لا أقوالاً، وهو ما يتوقّع المتابعون للوضع فـي سوريا أن يعود الحل السياسي ليتقدم من جديد من خلال النظام ورئيسه الأسد الذي دعا الدول التي تدعم ما سمي بالمعارضة أن توقف تزويدها مالاً وسلاحاً وعناصر بشرية، فعندها تكون محاربة الإرهاب الذي اعترف مدير الإستخبارات الأميركية بدور سوريا فـي محاربته، وأن التعاون معها لا بدّ منه وكذلك مع روسيا، وهو ما يحصل مع إيران من خلال الحكومة العراقية فـي الحرب على الإرهاب. فبعد أربع سنوات من الحرب على سوريا، والشعار الذي رفع لإسقاط النظام وتغييره، ورُصدت لذلك مليارات الدولارات وتجنيد مئات آلاف العناصر من تسعين دولة فـي العالم بإعتراف أميركي وغربي، فإن سوريا التي صمدت بنظامها ومؤسساتها وحافطت على وحدة القرار السياسي المركزي فـيها، وبقي جيشها موحداً إلا من حالات شاذة، فإنها فرضت على الدول التي حاربتها أن تغيّر من سلوكها نحوها، وقد بدأت وفود أوروبية وأميركية وآسيوية تتدفّق عليها، لتسأل قيادتها، كيف صمد الشعب السوري بوجه الإرهاب العالمي، وكيف ينجح جيشكم فـي تخطي هذه المرحلة الأصعب فـي تاريخه، وعلى ماذا اعتمدتم لتحققوا هذه الإنجازات فـي الميدان؟
Leave a Reply