محمد العزير
عندما ترشح رئيس بلدية ديربورن الأسبق الراحل مايكل غايدو للمنصب عام 1985، بعد خدمته لدورتين في المجلس البلدي، واجه منافسة حادة من زميلته رئيسة المجلس مارج باول التي كانت التوقعات ترجح فوزها (السبب الأهم لذلك –في حينه– كان الأصل الإثني لمنافسها الإيطالي الأميركي).
كان على غايدو أن يحسم الموقف. وحسمُ الموقف في ذلك الوقت كان يقتضي الحصول على أصوات الناخبين البيض، الذين ارتضوا مواصلة التراث العنصري للأب الروحي لديربورن، هنري فورد، بأن تكون مدينتهم الأكثر عنصرية وتمييزاً في الغرب الأوسط الأميركي، وكأنها خارجة من الرحم الجنوبي للحرب الأهلية.
في الأيام الحاسمة التي سبقت الانتخابات، وزعت حملة غايدو ابن المهاجرين الطليان منشوراً يدعو السكان إلى مناقشة «المشكلة العربية في ديربورن». كان العرب الأميركيون –حينها– «غرباء» في المدينة التي كانت تخلو من أي وجود أفريقي أو لاتيني أو يهودي أميركي. قلة من العرب كانت قادرة على الاقتراع، وقلة أقل كانت تعرف المضامين العنصرية لتعبير «مشكلة العرب» المأخوذة بالنص من الدعاية النازية التي صعدت في ألمانيا على ظهر الدعوة لمعالجة «مشكلة اليهود».
في مدينة كان رئيس بلديتها الأسبق أورڤيل هابرد يتمتع بلقب الرجل الأكثر لؤماً و«عنصرية» في شمال الولايات المتحدة، وهو الذي استمر في منصبه 36 سنة متتالية، عرف غايدو أن يلعب الورقة العنصرية بنجاح وربح ليصبح أول رئيس بلدية من أصول إيطالية في تاريخ ديربورن التي تأسست كمدينة بشكلها الحالي عام 1929.
وفي الدورة التالية حين ترشح مجدداً نهل من النبع نفسه وحوّل شرق ديربورن التي صارت يومها ذات كثافة سكانية عربية حاسمة إلى ما يشبه منطقة أمنية فنشر الشرطة التي تقصدت توقيف الشبان والرجال العرب الأميركيين وتحرير محاضر مخالفات بحقهم، وروّج إعلامياً قضية «فتيان وورن» Warren Boys محملاً إياهم مسؤولية فلتان أمني خيالي في شرق المدينة… ونجح مجدداً. وبقي في منصبه حتى وفاته عام 2006.
هذه النبذة التاريخية ضرورية اليوم، عشية الانتخابات التمهيدية لبلدية ديربورن، رئاسة ومجلساً، حيث يكثر المرشحون العرب الأميركيون وتغيب القضايا العربية الأميركية في المدينة. لم يفت الوقت على من يريد أن يحوّل صوته في الاقتراع إلى حافز للمرشحين لمناقشة قضايا العرب الأميركيين لا «مشكلة العرب»، لأن برامج المرشحين جميعاً، وفق متابعتي الشخصية لصفحاتهم وتصريحاتهم ومقابلاتهم، تخلو من أمر في غاية الحيوية وهو تلبية الحاجات الملّحة للعرب الأميركيين الذين أصبحوا الكتلة الوازنة في أية انتخابات، ولديهم قضايا تخصهم ليس من منطلق إثني وإنما من منطلق حقوقهم كمواطنين بأن ينعموا بالخدمات والمشاريع التي يمولون موازناتها من ضرائبهم واستثماراتهم. ولولا السيول الأخيرة التي كشفت عمق الهوة الإنمائية بين شطري ديربورن لما انتبه أحد للأمر، ولما تحدث أي مرشح عن أي موضوع لا يصح في انتخابات أية بلدية في أميركا.
هناك ثلاث قضايا مهمة لحياة العرب الأميركيين في ديربورن، تبدو البلدية والمؤسسات الحكومية غير معنية بها، بينما لا تكفي المؤسسات الأهلية والمبادرات الفردية لتلبية الحد الأدنى منها.
أولاً: قضية الشباب واليافعين الذين يعاني المهاجرون حديثاً منهم من تحدي الاندماج الثقافي في مجتمعهم الجديد، ويعاني البقية من انعدام وجود أية برامج لما بعد المدرسة أو لعطلات نهاية الأسبوع أو العطل الرسمية. لا يمكن لأندية كرة القدم أو حتى لمؤسسة اجتماعية مثل «هايب» التي قامت بمبادرة شخصية أن تحل محل برامج حكومية محلية جيدة التمويل. لذلك نرى ارتفاع عدد حالات الانتحار أو الموت بجرعات مخدرات زائدة أو في حوادث سير عبثية. الخريطة الديموغرافية لديربورن تشير وفق المدارس والإحصاءات إلى أن عدد العرب الأميركيين في هذه الفئة العمرية على الأقل خمسة أضعاف مثيلتها من غير العرب.
ثانياً: قضية المرأة التي تعاني من تهميش وتحديات عديدة تساهم المؤسسات الدينية العربية الأميركية في تفاقمها. غياب شبه كامل لحماية القانون (باستثناء جهود المركز العربي للخدمات الاقتصادية والاجتماعية (أكسس) والتي تتضاءل للأسف). لا برامج أمومة أو تعليم أو تمكين تتوجه للنساء العربيات الأميركيات. وبالطبع، لا فرص تدريب مهني أو تحصيل علمي يأخذ بالاعتبار الفوارق الثقافية والدينية والنفسية ويعمل على التقليل منها.
ثالثاً: قضية المسنين؛ عندما يبلغ العربي الأميركي سن التقاعد، أو تتقدم المرأة بالسن يتحولان في فترة وجيزة إلى كائنات غير مرئية. لا اهتمام بهم ولا نشاطات تخصهم ولا مبادرات نحوهم. يصبح البعض مراقب أطفال بلا أجرة فيما ينزوي الكثيرون وكأنهم ينتظرون النهاية. صحيح أن في ديربورن مساكن مدعومة للمسنين لكن غالبها يخدم مصالح الأولاد والأحفاد! وصحيح أن في المجمع الرياضي والفني الذي أقامه غايدو ويحمل اليوم اسمه برامج مخصصة للمسنين (تبدو كأنها لغير العرب الأميركيين… حتى أن السيدة التي كانت تعمل في المركز كمنسقة لتأمين نقل المسنين العرب فقدت وظيفتها قبل كوفيد بسنوات بسبب شح الموارد! ولم يتم استبدالها). هكذا لا يبقى أمام المسنين الرجال إلا بيوت الله لتمضية الوقت إن كانوا قادرين على الوصول إليها.
هذا يقود إلى النقطة الوحيدة التي تناولها بعض المرشحين بالتعميم والإشارة دون طرح فكرة أو برنامج يتعلق بها وهي التنمية الاقتصادية. الذي يزور ديربورن يشعر عندما ينتقل من شرق المدينة المكتظ والنشيط إلى غربها بأنه انتقل إلى مدينة ثانية. ففي الشطر الغربي من ديربورن وخصوصاً منطقة وسط المدينة، والذي بدأ غايدو بتنميته وأكمل رؤيته رئيس البلدية الحالي جاك أورايلي: طرقات نظيفة، أرصفة واسعة جيدة الانارة، الأزقة الخلفية مرصوفة ومصانة ومواقف سيارات كثيرة على الجانبين، منها المكشوف ومنها المسقوف، ولا بد من القول إن كثيراً من المستثمرين الأميركيين يستفيدون من ذلك هناك. لكن في الشطر الشرقي، وفي منطقة ديكس الجنوبية تحديداً، حيث تبلغ الحركة التجارية العربية الأميركية الصرفة الضعفين على الأقل: طرقات مهملة، أرصفة أكل عليها الدهر وشرب، الأزقة الخلفية متهالكة ومعتمة وتستخدم لحاويات القمامة، ولا مواقف عمومية، لذلك لا يمكن لصاحب مطعم أو مصلحة مثلاً أن يوسع عمله لغياب المواقف التي تأخذ الحيز الأكبر من الأرض، وتؤدي إلى فقدان الزبائن خصوصاً في ظروف الطقس السيئة.
نعود إلى التاريخ الحديث مجدداً. عندما بدأ العرب الأميركيون في الاستثمار والعيش في الشطر الشرقي من المدينة، كان على شارع وورن الشهير أقل من 15 مؤسسة تجارية بينها ثلاث دور لدفن الموتى وواحدة لغسلهم، ومقر لشركة تاكسي، وأربعة مستودعات. الآن هناك ما لا يقل عن 250 مؤسسة تجارية بين متجر ومطعم وعيادة وصيدلية على امتداد الشارع ما بين غرينفيلد ووايومنغ. كذلك كان حال شوارع غرينفيلد وتشايس وشايفر وميلر ووايومنغ والتي تقدر قيمة الاستثمارات العربية الأميركية فيها مع قيمة عقاراتها ببضعة مليارات من الدولارات وتشكل المصدر الضريبي الثاني للبلدية بعد شركة «فورد» لصناعة السيارات.
أصحاب هذه الاستثمارات والمحلات والعقارات يستحقون معاملة أفضل، لكن المؤسف أن التعامل معهم لا يزال في النطاق الرمزي… زيارة من هنا ودعوة من هناك وافتتاح أو قص شريط، بينما المطلوب ببساطة تنمية البنى التحتية لتنتعش المنطقة أكثر وتوفر فرص عمل أكثر.
الثلاثاء القادم الواقع في الثالث من آب (أغسطس)، وقبل أن تضعوا ورقة الاقتراع في الصندوق، وإن لم يكن التصويت لاعتبارات شخصية أو مناطقية أو عائلية أو جهوية، تذكروا أن ديربورن لم تبدأ هكذا، لم تكن مكاناً مرحباً بالعرب الأميركيين الذين صمدوا في المدينة بقوة القانون بعد انتصار القضاء لهم في وجه هابرد، وهم من أحيوا المدينة التي كانت تؤول إلى الضمور وتكاد تتحول إلى ضاحية نائمة لمدينة ديترويت التي هجرها البيض بالجملة إلى الضواحي الأكثر بياضاً وحداثة في مقاطعتي ماكومب وأوكلاند.
قبل أن تضعوا ورقة الاقتراع تأكدوا من أنكم تنتخبون مستقبل مدينتكم وعائلاتكم وأولادكم. ليكن صوتاً له معنى، وليكن المرشح مسؤولاً.
Leave a Reply