هناك تأثيرٌ هام وكبير لما يقوم به نشطاء فلسطينيون في الولايات المتحدة الأميركية، من مبادراتٍ فردية، خاصّةً في الحملات الانتخابية المحلّية، وفي ريادة منظّمات وجمعيات عربية وإسلامية، لكن بلا قدرة على توظيف هذه المبادرات الفردية في إطار فلسطيني تنسيقي واسع وشامل.
فالطاقات الفلسطينية في الولايات المتحدة مشتّتة، رغم أهمّية هذه الطاقات حجماً ونوعاً، ولا تتمّ الاستفادة الفاعلة منها لصالح القضية الفلسطينية في بلدٍ تتحرّك فيه إسرائيل بشكلٍ واسع ومؤثّر عبر هيئاتٍ مختلفة للجالية اليهودية الأميركية.
لذلك هناك حاجةٌ قصوى لقيام مؤسّسة تُعبّر عن كل الفلسطينيين في الولايات المتحدة لتكون إطاراً عاماً يجمع نخب الشتات الفلسطيني في أميركا الشمالية خصوصاً، بشرط مسألتين: الأولى، أن يكون هدف المؤسّسة هو البناء التنظيمي الديمقراطي بعيداً عن التحزّب السياسي الذي يسود بين الفصائل الفلسطينية، ثمّ ثانياً، تشكيل «المؤسّسة» من خلال الدعوة في المدن الأميركية لمؤتمرات شعبية فلسطينية عامّة تنتخب ممثّلين عنها لعضوية المؤسّسة، ثمّ في مرحلةٍ لاحقة، تضع هذه «المؤسّسة» برنامج عملها وأولويات تحرّكها وفق الرؤى التي يتمّ الاتفاق عليها بين من يمثّلون القاعدة الشعبية الواسعة من المهاجرين الفلسطينيين.
وسيكون وجود هذه «المؤسّسة» مفيداً ليس فقط للقضية الفلسطينية وللمهاجرين الفلسطينيين أنفسهم، بل أيضاً لما تريد «منظّمة التحرير» التركيز عليه من قضايا سياسية في الغرب وفي الساحة الأميركية خصوصاً، وممّا يجعل هذه «المؤسّسة» مستقبلاً حالةً شبيهة بما تقوم به «المنظّمة الصهيونية العالمية» من تنسيق بين المؤسّسات اليهودية العاملة تحت مظلّتها رغم الخلافات والتباينات بينها. كما سيكون ذلك مقدّمة لتأسيس حالة مماثلة لحالة «اللوبي الإسرائيلي»، خاصّةً إذا جرى وضع إمكاناتٍ مادية مساندة للعمل السياسي الفلسطيني في أميركا الشمالية.
إنّ ذلك لكفيلٌ أيضاً، في حال تحقيقه خلال السنوات القليلة القادمة، أن يجمع خلفه ومعه الكثير من الطاقات العربية الفاعلة في الولايات المتحدة. فالقضية الفلسطينية كانت نقطة الجذب التي يلتقي حولها ومن أجلها معظم العرب في الغرب، وهذه القضية هي أساس الصراع العربي/الصهيوني الممتد لقرنٍ من الزمن، منذ إطلاق «وعد بلفور» وخضوع البلاد العربية للهيمنة الأوروبية، ثمّ تأسيس دولة إسرائيل وبدء صراعها مع الدول العربية المجاورة لها.
لكن للأسف، فإنّ العرب في الأوطان العربية منشغلون اليوم في همومٍ كثيرة لها عناوين سياسية محلّية ترتبط في الصراعات على الحكم أو حول المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وهي بشكلٍ عام همومٌ وطنية داخلية في صراعاتها وساحاتها، وتنعكس سلباً على معظم المهاجرين العرب. فهي مرحلةٌ مختلفة تماماً عمّا كان عليه واقع العرب قبل نصف قرن، حينما كان الصراع مع إسرائيل يوحّد اهتمامات العرب أينما وجدوا، وحيث لم يعرف ذاك الزمن التمييز على أساس الانتماءات الوطنية أو الطائفية أو الإثنية…
العرب اليوم هم في حالة معاكسة تماماً لما كانوا عليه قبل عقد الثمانينات، حيث بدأت صراعات عربية/عربية على أكثر من جبهة، متزامنةً مع عزل مصر عن أمّتها العربية بسبب «معاهدات كامب ديفيد» والصلح المنفرد مع إسرائيل، ثمّ المعاهدة الإسرائيلية مع الأردن و«اتفاقية أوسلو» وأخواتها مع منظّمة التحرير الفلسطينية، ممّا أدّى بالمجمل إلى تهميش للقضية الفلسطينية على المستويين العربي والدولي… صحيحٌ ذلك كلّه، لكن التطوّرات الراهنة، خاصّةً ما هي عليه الحكومة الإسرائيلية من تطرّف شديد رافض لقيام دولة فلسطينية، ومن تساهل إدارة ترامب مع مواقف حكومة نتنياهو، تجعل القضايا المختلف عليها بين الفلسطينيين ساقطةً عملياً وتضعهم جميعاً أمام تحدّيات جديدة تفترض جمعهم لا تفرّقهم وانقسامهم.
فما أحوج الأمَّة العربية اليوم إلى «عمل نهضوي عربي شامل» تشترك فيه مجموعة من طلائعها الواعية المقيمة في بلاد العرب مع الطاقات العربية المنتشرة في بقاع العالم، ليشكّلوا معاً روّاد نهضة عربية حقيقية متوجّبة للأوطان والأمَّة كلها، وللقضية الفلسطينية المركزية، ولا نراها تتحقّق اليوم من خلال ما يحدث في المنطقة العربية من عنفٍ وصراعات. فمأساة الأمَّة تكبر يوماً بعد يوم، ليس بسبب ما يحدث فيها وعلى أرضها فقط، بل نتيجة ما ينزف منها من كفاءات وأموال وأدمغة… ولقد توفَّرت للمهاجرين العرب إلى الغرب، فرصة العيش المشترَك فيما بينهم بغضِّ النظر عن خصوصياتهم الوطنية، وبالتّالي توفَّر إمكان بناء النموذج المطلوب لحالة التفاعل العربي في أكثر من مجال. أيضاً أتاحت لهم الإقامة في الغرب فرص الاحتكاك مع تجارب ديمقراطية متعدّدة من الممكن الاستفادة منها عربياً، في الإطارين الفردي والمجتمعي. لذلك، فإنّ على المهاجرين العرب عموماً مسؤولية كبيرة الآن في عملية النهضة العربية المنشودة، وللمهاجرين الفلسطينيين خصوصاً فرصة هامة لتكوين إطارٍ جامع للشعب الفلسطيني يخدم وحدته وقضيته.
ولطالما تساءل الكثيرون عن سبب نجاح «المحامي الإسرائيلي» في أميركا بالدفاع عن جرائم حرب تقوم بها إسرائيل على مدار عقود من الزمن، بينما يتعثّر دور «المحامي العربي» عموماً، و«الفلسطيني» خصوصاً، في الدفاع عن قضيةٍ عادلة ترتبط بكل المبادئ والقيم التي يتفاخر الأميركيون بحملها والحديث عنها. فالقضية الفلسطينية تُجسّد جملة مسائل تشمل مبادئ حرّية الشعوب وحقّها في تقرير مصيرها وفي مقاومة الاحتلال، وهي أيضاً قضيةٌ إنسانية فيها إجحاف وإهمال لملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا من وطنهم وقراهم وعانوا ويعانون التشرّد وهدم البيوت ومصادرة الأراضي من قِبَل محتلٍّ ما زال يطمع بالمزيد من الإستيطان، وهي أيضاً مسألة دينية حيث يمارس الاحتلال تهويد الأراضي المقدّسة، الإسلامية منها والمسيحية.
ورغم كلّ هذه الأبعاد الهامّة للقضية الفلسطينية يتعثّر دور العرب والفلسطينيين في المجتمع الأميركي، ويتواصل ويمتدّ حبل الكذب والتزوير للحقائق من قِبَل الجماعات المؤيّدة لإسرائيل. فالتأثير العربي في سياسات دول الغرب ما زال لأسبابٍ عديدة محدوداً، بينها طبعاً تشرذم العرب أنفسهم، وتضارب اهتماماتهم الوطنية، وضعف تمسّكهم بهويّتهم القومية العربية. وسيكون الفارق كبيراً في أعمالهم وحركتهم لو توفّر أمامهم نموذجٌ فلسطينيٌّ رائد في إطاره التنظيمي، وفي برنامجه الوطني الفلسطيني الشامل. وسيجد المهاجرون العرب أنفسهم معنيّين بدعم هذا الإطار الفلسطيني التنسيقي المقترَح، ففيه ستكون، ليس سلامة المرجعية للفلسطينيين في الغرب فقط، بل أيضاً إعادة الحيوية للقضية الفلسطينية لدى كل المهاجرين العرب.
في أميركا مئات الألوف من الفلسطينيين، وهم بمعظمهم الآن من المواطنين الأميركيين، وفيهم كثافة كبيرة من المهنيين الناجحين جداً في أعمالهم الخاصة، بل إنّ معظم المؤسّسات والجمعيات العربية والإسلامية ينشط فيها بدرجة أولى من هم من أصول فلسطينية. وهناك أيضاً العديد من المتموّلين الفلسطينيين المقيمين في الولايات الأميركية. وهذه كلّها مواصفات لتشكيل قوة سياسية واقتصادية فلسطينية فاعلة لو جرى الجمع أو التنسيق بين عناصرها المبعثرة طاقاتها والمشتّتة أعمالها. فالفلسطينيون، كما العرب عموماً في أميركا، ينجحون في أعمالهم الفردية ويتعثّرون كثيراً في مؤسّسات العمل الجماعي المشترَك. قد يكون مردّ ذلك هو الانقسامات السياسية الحاصلة حول قضايا عربية مشتعلة الآن، أو قد يكون السبب في قلّة الخبرة في العمل المؤسّساتي، أو في طغيان «الأنا» على «نحن»، أو السلبية تجاه العمل المنظّم المشترَك، أو عادات ومفاهيم تعتبر نجاح «الآخر» وكأنّه فشلٌ للنفس!.
وصحيحٌ أنّ في الولايات المتحدة العديد من المراكز والمؤسّسات والجمعيات الناشطة بأسماء فلسطينية، وبعضها بأسماء قرى ومدنٍ فلسطينية، لكن لا توجد حالة تنسيق وتفاعل دائم بينها ممّا يجعلها تجيد «اللحن المنفرد» وتعجز عن العمل المشترَك بمفهوم «الأوركسترا».
ومهما كانت الأسباب وراء غياب «العمل الفلسطيني المنظّم المشترَك» على الساحة الأميركية، فإنّ ذلك أصبح حالةً سلبية خطيرة لا يجوز استمرارها، خاصّةً في مرحلةٍ أضحت فيها القضية الفلسطينية مُهمّشةً دولياً وعربياً، بينما تواصل إسرائيل الإستيطان والتهويد في الأراضي المحتلّة.
Leave a Reply