كمال ذبيان – «صدى الوطن»
بدأت المؤسسات الدستورية تنتظم في لبنان، بعد إنتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وإنهاء شغور رئاسي دام عامين ونصف العام، ثمّ في تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل حكومة العهد الأولى، وهذا ما كان متوقعاً من خلال التوافق الذي تمّ بين «التيار الوطني الحر» و«تيار المستقبل» على الإستحقاق الرئاسي والحكومي، ليدخل لبنان مرحلة جديدة، إنقلبت فيها المعادلات السياسية، وتغيّر ما كان يُرسم من سيناريوهات وتوقعات، ليستفيق اللبنانيون على مشهد سياسي جديد، تبدّلت فيه التحالفات، وسقطت المحاور بين «8» و«14 آذار»، وهي ليست المرة الأولى التي يحصل هذا التطور السياسي، إذ في العام 2005، وبعد مضي شهرين على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، قام تحالف رباعي في الإنتخابات النيابية ذاك العام بين كل من «تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الإشتراكي» من جهة، وحركة «أمل» و«حزب الله» من جهة ثانية.
الرئيس المكلّف سعد الحريري مستقبلاً النائب وليد جنبلاط للتشاور في تأليف الحكومة الجديدة. (دالاتي نهرا) |
فمع حصول الإنتخابات الرئاسية، وتكليف الرئيس الحريري تشكيل الحكومة، بعد نيله 110 من أصوات النواب، وهو رقم مرتفع، تمّ تسليفه للرئيس المكلّف لاسيما من الرئيس نبيه برّي الذي تحدّث عن دَين عليه للحريري، قرّر أن يوفيه إيّاه بتسميته رئيساً للحكومة، وكان قلق كبير ساد الأوساط السياسية والشعبية، من أن لا يسمي الثنائي «أمل-حزب الله» الحريري، رئيساً للحكومة التي لن يتمكّن رئيسها المكلّف من تأليفها في غيابهما، والذي اعتبر أن ذلك سيكون موجهاً الى العماد عون، وعرقلة له مع بداية عهده وفق ما أعلن الحريري، بأنه سيتضرر هو، لكن الضرر الأكبر سيقع على رئيس الجمهورية الذي أيّده «حزب الله».
لذلك اتّفق الثنائي الشيعي، أن يسمي الرئيس برّي عبر كتلته النيابية الحريري، ويمتنع «حزب الله»، وهذا ما حصل، فانطلقت بعدها عملية التأليف للحكومة التي أعلن الحريري أنه يريدها وفاقية وتضم تمثيل مختلف الكتل النيابية، وهو ما لم يُعجب رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي إقترح حكومة تضم من انتخب العماد عون، وأن تكون مصغرة، معتبراً أن الحكومات التي تشكّلت تحت أسماء «الوحدة الوطنية» و«الوفاق الوطني» وما شابه لم تكن منتجة، بل لعبت فيها المحاصصة وتمرير كل طرف لمشاريعه.
تحديات تقليدية
وكما مع كل ولادة لحكومة في لبنان، فإن الخلاف يبدأ على شكلها برلمانية، أو مطعمة من سياسيين وتكنوقراط، أو تكنوقراط فقط، إضافة الى حجمها، فإن المطالب تبدأ بحجم التوزير، فترفع الكتل النيابية سقفها وتضع شروطها، كي تحصل على حصة في المقاعد الوزارية، التي تمّ تقسيمها بين سيادية وخدماتية وعادية، وهو لم يكن معمولاً به قبل اتفاق الطائف، فدخل عُرف على الحياة السياسية والنيابية والدستورية، لحقائب وزارية سيادية، توزع على الطوائف والمذاهب الأربعة الأساسية مناصفة، فيحصل الموارنة والأرثوذكس على المقاعد المسيحية، والسُّنة والشيعة على المقاعد الإسلامية، باستبعاد طوائف أخرى، والتعامل معها على أساس طبقي، بما يخالف الدستور الذي لا ينص على هذه التركيبة، حيث ارتفعت أصوات نيابية وسياسية، تطالب بإلغاء هذا العُرف في توزيع الحقائب السيادية على أربعة مذاهب ضمن الطائفتين الإسلامية والمسيحية، وهذا ما لا يشجّع على إلغاء الطائفية السياسية.
وكما في توزيع الحقائب السيادية، فإن «القوات اللبنانية» طالبت بحقيبة سيادية وسمى رئيسها جعجع وزارة المال التي أعلن الرئيس برّي أنها ستبقى مع الطائفة الشيعية، لأي طرف سياسي انتمى، كي يكون للوزير الشيعي التوقيع الرابع على المراسيم والقوانين، مع رئيسي الجمهورية والحكومة والوزير المختص، ليكون شريكاً فعلياً في الحكم.
ويبرّر الرئيس برّي ذلك، بأنه في الطائف وأثناء البحث بالإصلاحات السياسية، تمّ التوافق، على أن تكون وزارة المال مع الطائفة الشيعية، وقد طُبّق هذا العُرف، في أولى حكومات ما بعد الطائف، فأسندت الى الوزيرين علي الخليل وأسعد دياب، الى أن ترأس الرئيس رفيق الحريري الحكومة، فاستأذن من الرئيس برّي أن يتولى وزارة المال هو شخصياً، لأنه بحاجة أن تكون معه، لمعالجة الوضع المالي والنقدي الذي أوصل الى تدهور سعر صرف الليرة أمام سعر الدولار الأميركي، بحيث بلغ الدولار نحو ثلاثة آلاف ليرة لبنانية، فأدّى ذلك الى إفقار اللبنانيين، وخفض رواتبهم بما أفقدهم قدرات شرائية، والى خسارة المدخرات بالليرة اللبنانية.
نزل الرئيس برّي عند رغبة الحريري لإنقاذ الليرة، فتم خفض سعرها أمام الدولار الى النصف، من ثلاثة آلاف ليرة الى 1500 ليرة ومازال استقرار صرفها قائماً، حيث يُنقل عن الرئيس المرحوم عمر كرامي الذي تمّ في أثناء ترؤسه للحكومة عام 1992، التلاعب بسعر صرف الليرة اللبنانية، وافتعال أزمة نقدية ومعيشية، أطاحت به في 6 أيار من ذلك العام، لتحصل انتخابات نيابية في الصيف، أتت بالحريري رئيساً للحكومة التي أُعد لترؤسها هذا السيناريو من عدم الإستقرار النقدي لتقديمه كمنقذ، وساهم بذلك كل من الثلاثي السوري عبدالحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان، وفق ما يروي الرئيس كرامي ومسؤولون آخرون، كانوا شهوداً على ما حصل.
تسلّم الحريري وزارة المال التي أدارها فؤاد السنيورة كوزير دولة، وخرج العُرف من التداول، حيث تعاقب عليها أربعة وزراء سُنّة هم الى السنيورة، ريا الحسن، محمد شطح، محمد الصفدي، وثلاثة وزراء موارنة هم: جورج قرم، دميانوس قطار، جهاد أزعور، وأرثوذكسي هو الياس سابا.
وعادت وزارة المال الى الشيعة مع الوزير علي حسن خليل، ويتمسّك بها الرئيس برّي، ولن يجيّرها بعد اليوم، وهو شرطه للمشاركة في الحكومة، وقد فوّضه «حزب الله» التحدث باسمه أيضاً، حيث يطالب رئيس مجلس النواب بثلاثة وزراء لحركة «أمل» ومثلهم لـ«حزب الله»، إذا كانت الحكومة من 30 وزيراً، وهو على حجم الكتلتين النيابيتين من 26 وزيراً، وأن التنازل عن مقعد شيعي لأي طرف يحصل الثنائي الشيعي على بديل له من طوائف أخرى، وقد سبق وتنازلا من حصتيهما لصالح حلفاء لهما، كالنائب طلال إرسلان، ورئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي علي قانصو، والوزير فيصل كرامي الذي انتقص عدد وزراء الشيعة من ستة الى خمسة ليحصل على حقيبة وزارية في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.
والحكومة التي يحاول رئيسها المكلّف، أن ينجزها قبل ذكرى الإستقلال في 22 تشرين الثاني، وتكون أقصر فترة في تشكيل الحكومات، لو تمّ تسهيل ولادتها الطبيعية، لا أن تتم بعملية قيصرية، إذ سبق وفي أول حكومة شكّلها في العام 2009، أن تعثّرت ولادتها، وهو الأمر نفسه حصل في حكومتي الرئيس ميقاتي (8 أشهر للتأليف)، والرئيس تمام سلام (عشرة أشهر).
سقف جعجع العالي
من العقد التي برزت حتى الآن، هي رفع «القوات اللبنانية» لسقف مطالبها، بثلاث حقائب سيادية وخدماتية ومتوسطة، إذ تلاقي رفضاً من كتل نيابية أن تحصل على هذا الحجم من الوزارات لكتلة من ثمانية نواب، إضافة الى أن ثمة حذر من تسلمها حقيبة سيادية، وهذا ما قد يؤخر ولادة الحكومة، إذ تتحدث «القوات اللبنانية» عن تفاهم بينها وبين «التيار الوطني الحر»، لحصد المقاعد المسيحية في الحكومة وتقاسمها، وإبعاد أطراف مسيحية أخرى كـ«الكتائب» و«تيار المردة» ومسيحيين مستقلين تحت ذريعة أنهم لم ينتخبوا عون، وقد تنبّه الرئيس برّي و«حزب الله» الى مناورة جعجع، وقطعوا الطريق عليه، بطلب توزير النائب سليمان فرنجية أو من يمثله بحقيبة خدماتية أساسية، ولا يمانع الحريري، لأنه يريد أن يعوّض له عن خسارته رئاسة الجمهورية، وينضم الى «المردة»، مشاركة الحزب القومي في الحكومة وبمقعد مسيحي، بحيث لا يكون الإستئثار «للقوات اللبنانية» التي سيضعها بمواجهة مع الرئيس عون، وما إذا كان سيلتزم مع جعجع أن يكونا شريكين متساويين في عهده والحكومة، وهو ما دفع بالحريري الى أن يقول لرئيس «القوات اللبنانية»، مطالبك ليست عندي، بل عند عون، فليقدم لك من حصته، إذ يطالب بأن يكون له كرئيس للجمهورية وزراء من خارج «التيار الوطني الحر»، وهو ما طرح سؤالاً من الرئيس برّي، هل هذا ملزم دستورياً أن يكون لرئيس كل سلطة حصة غير كتلته النيابية، وهو ما قد يدفعه أن يطالب بذلك.
فالطبخة الحكومية، لم توضع بعد على النار، إنما يتم تحضير موادها، وهذا يستلزم بعض الوقت، وأن العقد ليست صعبة الحل، إذ لا مشكلة في التمثيل الدرزي، حيث لا يمانع النائب وليد جنبلاط بمشاركة النائب طلال إرسلان ومَن يمثله، كما أن الحقائب التي يطالب بها يمكن الحصول عليها، سواء وزارة الصحة أو الأشغال، أو غيرهما، كما أن الرئيس الحريري سيحصل على الوزراء السّنّة مع مشاركة شخصية سنّيّة حليفة للمقاومة كالوزيرين السابقين عبدالرحيم مراد وفيصل كرامي، بحيث يحصل الحريري على مقعد مسيحي من كتلته التي تضم نواباً مسيحيين أو من «تيار المستقبل».
تبقى «القوات اللبنانية»، التي إذا تواضعت في مطالبها، تشارك في الحكومة، وإذا ظلّت على سقفها المرتفع، قد تخرج هي طواعية من الحكومة، إذا لم تلبَّ مطالبها، الموجودة عند رئيس الجمهورية، الذي قد يقع الخلاف مع القوات التي تراهن على «إعلان النوايا» الذي ستكشف الحكومة عن حُسن تطبيقها من التيار الوطني الحر ، إذ ان جعجع يتصرّف وكأنه صانع الرئيس أو وصي على العهد.
Leave a Reply