بيروت – كمال ذبيان
فـي الجولات العشرين من القتال، التي شهدتها طرابلس فـي شمال لبنان، عند خطوط التماس بين باب التبانة وجبل محسن، كان «تيار المستقبل» يقف الى جانب مسلحي باب التبانة الأكثر فقراً فـي أحياء المدينة، والذي يشبهه جبل محسن، فكان فقراؤها يتقاتلون مذهبياً: العلويون فـي الجبل والسنّة فـي الحي المنخفض، وسياسياً بين «8 و14 آذار»، وإقليمياً بين مؤيّد للنظام السوري ومعارض له، ويقف أهل الجبل مع المقاومة وتحديداً «حزب الله» ومحورها الداخلي والخارجي، وأهل التبانة الذين كانوا يوصفون أنهم مع المقاومة عندما كانت فلسطينية، وتصنّف بأنها «جيش السّنّة» فـي لبنان، فإنهم فـي مرحلة ما بعد خروج الجيش السوري من لبنان، وصعود قوى 14 آذار بقيادة «تيار المستقبل»، قد تم حرف المدينة من قبل هذه القوى وتحت عنوان مواجهة حلفاء النظام السوري، نشأ فريق فـي طرابلس على تشويه صورة المقاومة، ونعتها بأنها أداة إيرانية، وتعمل لإذلال أهل السّنّة فـي لبنان، واستغلوا أحداث 7 أيار 2008، ليبنوا عليها فـي تحريضهم على «حزب الله»، واستخدام خطاب مذهبي، فاصطبغ القتال فـي طرابلس بين سنّي وعلوي، وتصاعد مع الأزمة السورية التي تفاعلت معها العاصمة الثانية للبنان خصوصاً والشمال عموماً.
![]() |
ساحة عبد الحميد كرامي المعروفة باسم ساحة النور وسط طرابلس |
ونجحت «الجماعات الإسلامية» المتطرفة فـي أن تعيد بناء قوتها الذاتية، بعد أن ضُربت فـي منتصف الثمانينات من القرن الماضي، عندما تحوّلت المدينة الى «إمارة إسلامية» حين حضر إليها ياسر عرفات رئيس «منظمة التحرير الفلسطينية»، ليخوض منها حربه ضد النظام السوري الذي كان على خلاف معه حول حل المسألة الفلسطينية، إذ كان توجه «أبوعمار» هو فصلها عن بيئتها القومية كقضية مركزية، متذرعاً «باستقلالية القرار الفلسطيني» وإخراجها من وصاية الأنظمة العربية. وما كان يقصده عرفات ربما كان سليماً ويخضع للنقاش، إلا أن تورطه فـي حرب على النظام السوري برئاسة حافظ الأسد، و مساندة «الإخوان المسلمين» الذي كان قريباً من فكرهم، فـي معركتهم ضد النظام لإسقاطه، هو ما شجّع على ظهور الحركات الإسلامية، التي كانت حركة «التوحيد الإسلامي» برئاسة الشيخ سعيد شعبان فـي طليعتها وعلى أن تقاتل الجيش السوري لاخراجه من عاصمة الشمال، وضرب حلفاء النظام السوري، ومعهم أيضاً مَن كان مؤيداً لنظام صدام حسين فـي العراق، الذي كان فـي حرب مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي لم تكن علاقاتها مع النظام السوري قد انتظمت بعد أن انكشفت أهداف الحرب العراقية – الإيرانية.
فطرابلس التي كانت توصف معاركها بأنها «صندوقة بريد» للأنظمة والمحاور الداخلية والخارجية، مازالت فـي هذا الموقع، كما هو لبنان بشكل عام، إذ يجري استخدام المدينة لإيصال رسالة الى هذا الطرف أو ذاك، فاستخدمها «أبو عمار» ضد الرئيس حافظ الأسد، ودخلت إيران والعراق فـي حرب بالواسطة إليها، كما لجأ الرئيس سعد الحريري الى محاورها القتالية يشعلها عندما أُخرج من رئاسة الحكومة فـي كانون الثاني عام 2011، وأطفأ نيرانها بعد تشكيل الرئيس تمام سلام حكومته، حيث توقفت بسحر ساحر الاشتباكات التقليدية بين باب التبانة وجبل محسن، ووُضعت خطة أمنية لطرابلس، فانتقل منها علي ورفعت عيد الى خارج لبنان، وكانت وجهتهما سوريا حيث يقيمان، وتمّ زج ما سمي «قادة محاور» فـي السجن على أن يتم الإفراج عنهم بعد فترة قصيرة، لكن لم يحصل ذلك، وخرج هؤلاء ومن داخل زنزاناتهم يعلنون أن مَن كان يموّلهم ويسلّحهم هو «تيار المستقبل» عبر الضابط المتقاعد عميد حمود الذي أنشأ «أفواج طرابلس»، ولم يوفّر هؤلاء أيضاً، اللواء أشرف ريفـي وزير العدل الحالي والمدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي الذي كان يصفهم بـ«أشرف الناس» الذين يدافعون عن مدينتهم، حيث كانت صوره ترفع فـي شوارعها وأحيائها موقعة باسم «ابن البلد» ليبني له شعبية يعبر منها الى النيابة ورئاسة الحكومة التي رشّحه لها الرئيس الحريري لكنه لم ينجح بإيصاله، فأعطيت له وزارة العدل واستبعد عن الداخلية التي ذهبت الى نهاد المشنوق، لأنه لا يمكن أن يعود الى وزارة لم يجدد له فـيها كمدير عام لقوى أمن داخلي بسبب رفض 8 آذار له.
فطرابلس التي عاشت منذ أيار 2008 حوادث أمنية متفرقة بسبب الصراع بين «8 و14 آذار»، ولم تهدأ محاورها إلا فـي العام 2009، بعد المصالحة السورية – السعودية، ووصول الحريري الى رئاسة الحكومة وزيارته الى دمشق ومصالحته الرئيس بشار الأسد، والنوم فـي منزله وسريره، فإن ما ينتظرها يختلف عن السنوات العجاف السابقة، إذ لم يعد قادة المحاور هم أنفسهم، بل يقبعون فـي السجون، وانتفت ذريعة جبل محسن الموالي للنظام السوري وأن آل عيد فـيه والحزب العربي الديمقراطي، هم مَن يفجرون أمن المدينة، لأن الرئيس الأسد يريد أن ينتقم منها، كما كان «تيارالمستقبل» يعلن ويروج قادته من نواب ووزراء ومسؤولين فـيه.
وها هي طرابلس مازالت مهددة أمنياً، والخطة التي وُضعت لضبط الأمن فـيها، تُخرق كل يوم من قبل مسلحين، تبيّن لـ«تيار المستقبل» أنه بعد ان دربهم وسلحهم ومولهم واحتضنهم لم يعد «يمون» عليهم، وأن قائدين شابين يمسكان بأمن طرابلس، أحدهما شادي المولوي اعتقله الأمن العام قبل عامين لارتباطه بتنظيم «القاعدة»، وتمّ الإفراج عنه تحت ضغط الشارع المسلح وبدعم من «تيار المستقبل» نفسه ومن القادة الأمنيين التابعين له، وبجهد بذله الرئيس نجيب ميقاتي عندما كان رئيساً للحكومة مع الوزير محمد الصفدي الذي القي القبض على المولوي فـي مكتبه ويعتبر قريباً منهما، ونقل بعد إطلاق سراحه بسيارة الصفدي واستقبله ميقاتي فـي منزله ليصنعا منه قائداً عسكرياً، فظهر مع سيطرة «داعش» على الموصل وتوسعها فـي سوريا فأعلن المولوي مع أسامة منصور وهو القائد الميداني الثاني أنهما يبايعان الخليفة «أبوبكر البغدادي» ورفعا راية «داعش».
وبدأت العمليات على الجيش كمستهدف أول لإخراجه من طرابلس، ولضرب الخطة الأمنية، ليملأ المسلحون الفراغات الأمنية، وهو ما حصل إذ باتت التبانة مربعاً أمنياً تابعاً للمولوي ومنصور، ومنه تنطلق العمليات العسكرية برمي القنابل على مراكز الجيش وفـي شارع سوريا الذي يفصل باب التبانة عن جبل محسن، و فـي نهر أبوعلي، واغتيال مواطنين كما فـي قتل فواز بزي من بلدة بنت جبيل ويقيم مع عائلته فـي طرابلس منذ سبعين عاماً، وكذلك اغتيال عسكريين حيث بلغ عددهم الخمسة خلال شهر وعدد من الجرحى العسكريين ومحاولة اختطاف اخرين ، كما فـي استهداف دوريات الجيش.
هذه الأجواء الأمنية المتوترة فـي طرابلس والتي أقلقت أهلها وسكانها، خرج نوابها ووزراؤها من تيار المستقبل ليعترفوا بأنها مخطوفة من قبل شخصين يتمّ التهاون معهما أمنياً، إذ يتخوّف «تيار المستقبل» الذي كان يدافع عن قادة المحاور، أن تخرج طرابلس والشمال من قبضته السياسية، كما من نفوذ زعماء طرابلسيين آخرين، وأن «الضبع» الذي «علفوه» سيأكلهم جميعاً، وهو ما تركهم يطرحون الصوت ويصرخون، أن هؤلاء المسلحين لا يمثلون طرابلس وهم قلة قليلة لا تتعدى 3 بالمئة من السكان، إلا أنهم بدأوا يستقطبون الشباب ويجندونهم بعد زرع الفكر التكفـيري فـي رؤوسهم، وتحريضهم على الآخر من مذهبهم وغير مذهبهم، أو يختلف معهم بالدين والعقيدة الدينية، فالسّنّي هو مرتد يجب قتله كما الشيعي الرافضي والعلوي والدرزي والمسيحي الكافر، إذ امتلأت جدران بعض الكنائس الطرابلسية بشعارات تتوعّد المسيحيين بالقتل وتشتم صليبهم ومسيحهم، فشعروا بالخوف من أن يحل بهم ما حل بمسيحيي الموصل وسوريا.
إلا أن الوطنيين والشرفاء من أبناء طرابلس رفضوا ما كُتب، واعتبروا أنها صادرة عن مسلحين لا يمثلون المدينة وليسوا من نسيجها الوطني، ولا يعبّرون عن الإسلام، حيث دعا مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار الى مؤتمر اسلامي – مسيحي لرفض ممارسات الإرهابيين وإدانتها وتطهير المدينة منها، من خلال استكمال الخطة الأمنية وتعزيزها، وتوفـير الغطاء السياسي والحزبي والديني والشعبي للجيش، لإزالة المربع الأمني من باب التبانة، قبل أن يتوسّع نحو باقي طرابلس، إذ أن المولوي ومنصور بعد ان أعلنا انتماءهما الى «داعش»، وهما ينتظران ساعة الصفر للتحرك عسكرياً، ورفع راية الخلافة الإسلامية فوق المدينة التي سميت بـ«قلعة المسلمين»، بعد أن سبق لجماعات إسلامية أن أزالت فـي الثمانينات تمثال أحد رجال الاستقلال ودولة لبنان عبدالحميد كرامي من الساحة عند مدخل عاصمة الشمال، ووُضع مكانه عبارة «الله»، التي لا يجرؤ أحد على رفعها، فـيُكفّر ويُقتل، وهو ما حصل عندما حُرق علم تنظيم «داعش» الذي يتضمن عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، فأثيرت حملة تكفـير ضد شبان قاموا بهذا العمل فـي الأشرفـية، وأعطي طابعاً طائفـياً، واضطر الوزير ريفـي الى الطلب من القضاء التحرّك لملاحقة الفاعلين، لكن الوزير المشنوق كان صريحاً وجريئاً عندما رفض أن يُذبح مواطن تحت هذه الراية فهي لا تمثّل الإسلام، ولا تمت إليه، على عكس ما تصرّف ريفـي الذي يهادن «الإسلاميين المتطرفـين» لحسابات محلية طرابلسية وأخرى انتخابية وشعبوية.
فطرابلس أمام اختبار أمني جديد، وهي فـي سباق بين تفعيل الخطة الأمنية واجتثاث الإرهاب منها بإزالة مربعه فـي باب التبانة، فتهدأ المدينة، أو أن «قائديها العسكريين» المولوي ومنصور قد يسبقان الحكومة، ويعلنان عاصمة الشمال «إمارة إسلامية»، كما يريدها الخليفة البغدادي، الذي يخوض العالم حرباً عليه، بعد أن بات هو مَن يعبّر عن تنظيم «القاعدة» التعبير الأقرب، وورث زعامته بمبايعته من أكثر من مجموعة إسلامية فـي عواصم العالم.
Leave a Reply