بعد انتقال الانتفاضة من الشارع إلى أسطح المباني
ليس أسهل على الممسكين بالسلطة في طهران، من المرشد الأعلى، إلى الابن المدلل للمرشدية الرئيس أحمدي نجاد، من إلصاق تهمة إثارة المشاكل والشغب بعد الانتخابات الرئاسية بـ”الشيطان الأكبر” ذلك العدو الجاهز للثورة، القابل لامتصاص كل أنواع التهم بالتدخل في الشأن الإيراني الداخلي والتآمر على النظام الثوري الإسلامي الذي أثبتت نتائج الانتخابات الأخيرة، بصرف النظر عن مدى صحة التلاعب بها، أنها وضعت إيران أمام مفترق طرق بات من الصعب تجاوزه أو تحديد الوجهة الجديدة للتعامل مع ”الخارج المتآمر” دون إعادة نظر جذرية في الطريقة التي يتحكم من خلالها تحالف النخبة الحاكمة بمقاليد السلطة. فالاتهامات التي وجهها الرئيس المجددة ولايته أحمدي نجاد إلى إدارة الرئيس باراك أوباما بالتدخل وإثارة الشغب عبر تمويل من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لا يستقيم مع تأكيد الرئيس الأميركي المعلن وفي أكثر من مناسبة أن الانتخابات هي شأن إيراني داخلي تنتظر الإدارة الأميركية حسمه من قبل المؤسسات الإيرانية المعنية بالطبع كان على الرئيس الأميركي التأكيد أن مسألة الحريات وحقوق الإنسان ليست مسألة ”سيادية” للدول، بل إنها تخضع للمواثيق الدولية التي يجب على السلطة السياسية والدينية في إيران مراعاتها والالتزام بموجباتها في المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس الأميركي الأسبوع الماضي، كافح في رده على سيل الأسئلة التي أمطره بها المراسلون في الدفاع عن مواقف إدارته بعدم التدخل في الأحداث التي اعقبت الانتخابات الإيرانية، متهكماً على التهم التي وجههت إلى الـ”سي آي أي” بتحريك التظاهرات التي ينظمها أنصار المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي حرص الرئيس أوباما على الدفاع عن المنطق الجديد لإدارته بعدم توفير أية ذريعة لخصوم أميركا في العالم، وإيران تحديداً، وعلى ضوء خطابه الشامل الموجه الى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة، لإثبات عدم مصداقية التوجه الأميركي الجديد في التعامل مع ملفات الأزمات الساخنة من العراق إلى فلسطين وإيران وآسيا الوسطى. وكان على الرئيس الأميركي أن يواجه حملات وضغوطات داخلية وخارجية تتهم إدارته بالتراخي في الشأن الإيراني وترك ملايين الإيرانيين من التيار الإصلاحي يواجهون القمع على أيدي أجهزة أمن النظام يتصرف الرئيس الأميركي مع تداعيات الانتخابات الإيرانية من منطلقات واقعية في السياسة، ومن حسابات تفيد أن القابضين على السلطة في إيران يتوجهون إلى المزيد من التشدد عندما توضع الأمور الخلافية على طاولة البحث والحوار اللذين أرادهما أوباما وسيلة لحل القضايا العالقة مع النظام الثوري الإسلامي قبل اللجوء إلى أي خيارات أخرى، من بينها تشديد العقوبات أو احتمالات المواجهة العسكرية إذا أخفقت الجهود الدبلوماسية في الوصول إلى ”تفاهات كبرى” لإعادة توزيع خارطة النفوذ في تلك المنطقة من العالم لكن موقف الرئيس الأميركي الحذر جداً من الصورة التي سترسو عليها الأوضاع الإيرانية لا يلغي توجه الإدارة الأميركية إلى مزيد من التركيز على محاصرة السياسة الإيرانية في المنطقة عبر المحاولات الحثيثة لتفكيك التحالفات التي نسجتها إيران مع أنظمة وأحزاب عربية خلال السنوات الماضية ومنحتها قوة الاعتراض على السياسات الأميركية المنتهجة، في إطار ”محور الممانعة” الذي تنضوي فيه سوريا، وقطر بدرجة ما، إلى ”حزب الله” في لبنان وحركة ”حماس” في قطاع غزة وتراهن الإدارة الأميركية على العمل على فصل المسارين السوري والإيراني وتسريع تفكيك ”الحلف الاستراتيجي” بين دمشق وطهران، للضغط على المرشد الأعلى الإيراني، على ضوء حركة الاحتجاج، واحتمالات تجدد المواجهة مع التيار الإصلاحي في الشارع الإيراني، من أجل إرغام صاحب السلطة الأعلى والأقوى في طهران السيد علي خامنئي ورئيسه المفضل محمود أحمدي نجاد على التراجع عن سياسة المواجهة مع أميركا والغرب عبر الورقة النووية وتشجيعهما على الانكفاء وعدم إثارة ”الشغب” أمام الجهود الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط، والتي ”لديها ما يكفيها”، من مشاكل مع حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل التي ضربت بعرض الحائط رؤية ”حل الدولتين” التي اعاد الرئيس أوباما إحياءها واضعاً رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أمام مسؤولية إثبات ”حسن نواياه” بوقف فوري لعمليات الاستيطان وربط مواصلة مبعوثه إلى المنطقة جورج ميتشل جهوده في المنطقة بهذا الطلب ليس بعيداً عن هذا التوجه الأميركي الضاغط على الأجندة الإيرانية، الإعلان عن نية إعادة السفير إلى العاصمة السورية قريباً لأن الجهود الأميركية و”الدور السوري البناء” في الأشهر الأخيرة يتطلبان وجوده هناك وحيث لا يضير الإدارة الأميركية اعتبار دمشق لهذه الخطوة نجاحاً لسياستها الراهنة طالما أنها (أي دمشق) قد أدت في نظر الإدارة الأميركية أدواراً إيجابية في الآونة الأخيرة فيما يتعلق بالملفين العراقي واللبناني، على صعيد تشديد عملية مراقبة الحدود العراقية – السورية على مشارف الانسحاب العسكري الأميركي من المدن الكبرى نهاية حزيران الحالي، والابتعاد عن التدخل في العملية الانتخابية التي جرت في لبنان مؤخرا، وأفرزت فوزاً ثبت شرعية خصوم دمشق في لبنان لأربع سنوات قادمة الانفتاح الأميركي على دمشق الذي بدأ مع رحيل الإدارة الجمهورية ووصول الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض يثير حفيظة طهران التي تخشى من تقارب حليفها السوري مع الإدارة الأميركية الجديدة، بعدما تخففت دمشق من عبء المفاوضات غير المباشرة مع الإسرائيليين، بسبب تطرف الحكومة المنتخبة حديثاً في تل أبيب. فطهران لا تنظر بعين الرضى إلى مواصلة الانفتاح المتبادل بين واشنطن ودمشق، بعيداً عن مجريات التجاذب بين طهران وواشنطن والغرب حول الملف النووي الإيراني والنتائج التي سترسو عليها تجربة الحوار الأميركي-الإيراني، المزمع إطلاقه بعد جلاء الصورة الانتخابية في طهران والتكريس المعلن لنتائجها على لسان المرشد الأعلى والخشية الإيرانية تكمن أيضاً من حقيقة أن الحليف السوري قد لا يكون قادراً على تحمل أعباء مواجهة إيرانية شاملة مع الولايات المتحدة والغرب، في ضوء المغريات الأميركية والأوروبية لدمشق بانتهاج سياسة ”عاقلة” تعيد لها مكانة اهتزت في السنوات الأخيرة وانزاحت لصالح نفوذ إيراني فاقع، سواء في لبنان أو في فلسطين أو العراق، ما جعل دمشق تبدو وكأنها ملحقة بقطار النفوذ الإيراني الساعي إلى الوصول إلى محطات عربية وآسيوية. وقد لا يطول الوقت قبل أن يظهر حجم افتراق النهج السوري عن نهج حليفه الإيراني في المنطقة لاعتبارات عربية أدركت دمشق أن تجاوزها لا يفيدها كثيراً في السعي إلى لعب دور محوري إقليمي، بل على العكس من ذلك، أسهم في السنوات الماضية في تقليص دورها و”تهميشه” لصالح دور متزايد للحليف الإيراني من هنا قد يكون من الأجدى في الأسابيع والأشهر القادمة مراقبة حركة الدبلوماسية الإيرانية باتجاه بعض العواصم العربية والإسلامية ومنها على وجه الخصوص دمشق وبيروت وبغداد، عوضاً عن مراقبة ورصد حركة الشارع الإيراني الذي انتقلت احتجاجاته إلى أسطح المباني وسلاحها ”التكبير” الذي لن يكون كافياً لمراهنة البعض على ثورة ”مخملية” لم تتحقق، وانكفأت بفضل نجاح الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة المرشد مباشرة، في ترجيح كفة الشرعية الدينية على الشرعية الجمهورية (الشعبية) أقله للسنوات الأربع المقبلة، وبانتظار أن نكتشف الفارق بين نجاد ”الأول” ونجاد ”الثاني” وإلى أي مدى أسهمت ”الانتفاضة الخضراء” في تعديل مفاهيم الحكم والسلطة في بلاد الولي الفقيه الذي يعتقد المؤمنون به أن سلطاته لا تنحصر في قيادة الإيرانيين أو المسلمين بل تتعداها الى أصقاع الأرض حتى ظهور المنتظر الذي ”سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجورا وبالانتظار أيضاً، قد لا يفيد استمرار رمي المشكلة على التدخل الأميركي والغربي إلا بمقدار الحاجة إلى استحضار هذا ”التدخل” لجبه أي تفكير أو سلوك بـ”ثورة مضادة” يبدو أنها لا تزال غير ناضجة ولا تجد من يتجرأ على خوضها
أما مير حسين موسوي فقد يكفيه أن ينجو من ”العقاب” لمحاولته فرض تغيير بقوة الشارع، لكن تحت سقف الثورة التي كان ولا يزال أحد ابنائها الشرعيين.
Leave a Reply