لقد كان اجتماع مجلس بلدية ستيرلنغ هايتس المخصص لمناقشة مشروع إقامة مسجد جديد فـي المدينة، عبارة عن عراضة مشحونة بالحقد والعنصرية والتعصب المقيت (التفاصيل ص 5).
تحدث الحضور واحداً تلو الآخر، مطلقين جملةً من الشتائم والإهانات بحق الإسلام والمسلمين فـي سياق معارضتهم لبناء المسجد الجديد، والمؤسف ان الصوت العاقل الوحيد فـي حفلة الجنون تلك كان أميركياً أبيض قام بتذكير الحضور بالتعديلين الأول والرابع عشر من الدستور الاميركي اللذين يكفلان حق التعبير وممارسة الشعائر الدينية والحماية القانونية المتساوية لجميع المواطنين.
لكن صوت العقل هذا قوبل بصيحات الاستهجان من الجمهور المتعصب، الذي كان متناغماً لأقصى الحدود باستثناء بعض المتفرجين الذي اكتفوا بالصمت أمام هول التصريحات وعدائيتها، فـيما انصب اعتراض آخرين على مسائل تنظيمية منها ازدحام السير والازعاج العام اللذين قد يتسبب بهما إنشاء المسجد الجديد فـي الحي السكني الهادىء.
ورغم أن الشكاوى تراوحت بين خوف غير عقلاني وكريه من الإسلام إلى مسألة «الزونينغ»، لكنه بشكل عام، كان الإجتماع عبارةً عن حفل جنون ومهرجان سباق يطفح بكراهية الإسلام والأجانب وتسوده الإسلاموفوبيا. غير أن الأكثر إيلاماً فـي مشهد الجلسة البلدية هو الذي صدر عن بعض أفراد الجالية الكلدانية، من خلال الهجوم على الإسلام والمسلمين رافضين بتاتاً إقامة المسجد الجديد. متناسين الرابطة الأخوية العريقة والتاريخ المشترك بينهم وبين المسلمين.
المخجل أكثر، أن مواقف هؤلاء كانت أكثر عنصرية وتضليلاً وجهلاً من المعارضين البيض المتشددين أنفسهم!
الإسلاموفوبيا بين الكلدان
بالطبع ليس كل الكلدان يشاطرون رأي بعض المتعصبين من أفراد الجالية الذين يجهرون بحقدهم على المسلمين أمام الملأ، غير أن المشاعر السلبية ضد الإسلام والمسلمين الأميركيين ليست أمراً هامشياً فـي أوساط الجالية الكلدانية بل هي مشاعر وجدت من يعززها بمختلف الوسائل خلال السنوات الماضية، ومن واجب العقلاء اليوم معالجتها بحكمة وروية عبر ايجاد وبلورة القواسم والمصالح المشتركة وتهدئة المخاوف التي تولّدها الصور النمطية لكلا الجاليتين اللتين لا يفرق بينهما باقي الأميركيين.
وإذا كان البعض من إخواننا وأخواتنا الكلدانيين يعتقدون انهم يستطيعون التخلص من ارتباطهم بالعرب والمسلمين بمجرد تمسكهم بهويتهم الكلدانية ونكران ثقافتهم العربية، أو من خلال تصنيف أنفسهم فـي معسكر التفوق الأبيض ومعاداة الأجانب، فإنهم مخطئون تماماً لأن هؤلاء لن يقبلوهم أبداً طالما ان أصولهم معروفة وهي من العراق.
والدلائل كثيرة من خلال حالات التمييز التي يتعرض فـيها الكلدان بسبب عرقهم واسمهم وموطنهم الأصلي، مما يدل على أنَّ الغير من العنصريين لا يفرق بين الكلداني المسيحي أو العراقي المسلم.
هذا عدا عن انه فـي الجلسة البلدية نفسها التي اعترض فـيها بعض الكلدان الأميركيين على بناء المسجد، اشتكى السكان البيض الآخرون من وجود مصالح تجارية تحمل يافطات إعلانية «بأسماء غير إنكليزية»، مع العلم ان ملكية تلك الشركات تعود فـي أغلبها إلى الكلدان والعرب المسيحيين من اللبنانيين والسوريين وغيرهم، لا المسلمين فقط.
إنَّ المحنة التي يعيشها مسيحيو العراق اليوم هي مأساة حقيقية يرتكبها التكفـيريون المحسوبون افتراءً على الإسلام الذين يروعون معظم سكان الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم. وهؤلاء الإرهابييون أنفسهم يقتلون ويهجرون من المسلمين أضعاف ما يفعلون مع غيرهم من المسيحيين وأتباع الملل الأخرى من الذين وجدوا فـي مناطق وسط وجنوب العراق وسوريا ولبنان والأردن مأوى لهم بين إخوانهم المسلمين بعيداً عن بطش التكفـيريين الذين اجتاحوا بلاد الشرق بعقيدتهم المريضة التي يرفضها المسلمون.
أما هنا فـي منطقة ديترويت ورغم التمايز بينهم، فقد تعايش المسلمون والكلدان وتعاونوا معاً على مدى عقود، ذلك ان الجاليات العربية (المسيحية والمسلمة) والجالية الكلدانية تجمعهم أهداف مشتركة ومصير مشترك ومسيرة واحدة.، ولكن البعض من إخواتنا وأخواننا الكلدان ارتأوا واختاروا الوقوف إلى جانب المتعصبين الذين يكرهون التنوع بسبب الحقد الأعمى والمزاعم الواهنة بالتفوق على باقي العراقيين الآخرين.
هذا التحامل العنصري من قبل بعض اخواننا الكلدان هو قصير النظر. فاليوم، يخرجون مع العنصريين متكاتفـين ضد بناء المساجد، فمن يضمن لهم غداً ان يسمح لهم هم ببناء كنائس تحت أعذار ومسميات وحجج مختلفة؟ هل يصدق الكلدان فعلاً ان البيض المتعصبين ينظرون اليهم كمواطنين متساوين، أم أنهم قرروا نسف حقوقهم التي يضمنها الدستور الأميركي؟!
التعصب ليس طارئاً
جذور التعصب فـي أميركاً تمتد عميقاً فـي التاريخ وترسخها اليوم وسائل الإعلام المغرضة المنتشرة، حتى أن صحيفة محلية وصفت بناء المسجد بالأمر «المثير للجدل». وفـي مقال نشر فـي صحيفة «المستشار والمصدر« (أدفايزر أند سورس) التي تغطي الضواحي الشمالية لديترويت، ركز الكاتب على «مخاوف السكان بشأن ازدحام السيارات وحركة المرور»، متجاهلاً حفلة الكراهية والجهل «وعلى عينك يا تاجر» ضد المسلمين.
فالتعليقات السلبية، التي وردت فـي اجتماع المجلس البلدي ولجنة التخطيط المدني فـي البلدية، فاضحة بفجاجتها وصلافتها وصفاقتها ضد الإسلام.
وجد أحد الكلدان مثلاً، وهو بالكاد يتحدَّث الانكليزية، أن من واجبه الكلام ولو المتعثر لكي يحذِّر الاميركيين من «المسلمين القتلة المعتاشين على طوابع الطعام (فود ستامب)» شاملاً المسلمين كلهم بحكمه المبْرَم. ومثل هذا الموقف المتشنج والملفّق لا ينبغي إدراجه فـي تقرير الصحيفة المذكورة.
يشار الى أن النزاعات حول بناء دور العبادة بسبب التصنيف العقاري «زونينغ» ليس شيئاً جديداً فـي الولايات المتحدة.
«الحق فـي بناء وشراء أو استئجار مكان للتجمع من أجل التعبد هو جزء لا يتجزأ من الحرية الدينية»، كما نص تقرير صدر عام ٢٠١٥ حول الحريات الدينية من قبل وزارة العدل الأميركية، وأضاف التقرير الذي رفع الى الكونغرس أن «هذا يشمل جميع الجماعات الدينية، ونفس الشيء ينطبق على مدارس التعليم الديني. والجماعات الدينية ببساطة لا يمكنها ممارسة معتقداتها وشعائرها من دون مرافق كافـية لتلبية احتياجاتها».
غير انه، وفقاً للتقرير، تواجه دور العبادة والمدارس الدينية فـي كثير من الأحيان التمييز من قبل هيئات التخطيط المدني فـي المدن والبلدات. وقد وجد الكونغرس الأميركي «أدلة ضخمة» على التمييز ضد بناء دور العبادة للأديان الأقلوية، كما يفـيد التقرير، ويتابع «على سبيل المثال، وجد الكونغرس أنه فـي حين أن اليهود يشكلون ٢ بالمئة فقط من سكان الولايات المتحدة، فإنَّ ٢٠ بالمئة من حالات الخلاف حول إنشاء مراكز دينية متصلة بإقامة معابد يهودية، وأظهر التقرير أن المجموعات الدينية الأقلوية التي تشكل ٩ بالمئة من مجمل سكان أميركا، تعاني من حوالي ٥٠ بالمئة من حالات النزاع المبلَّغ عنها بشأن خلافات التصنيف العقاري لإنشاء دور العبادة.
ويواجه اليهود الأميركيون التحدي نفسه الذي يواجهه المسلمون عند محاولتهم إقامة وتشييد المباني والمدارس الدينية، حيث يورد التقرير ١٠ حالات منعت فـيها البلديات بناءَ دورِ عبادة للسيخ ومساجد للمسلمين.
إنَّ صعود الإسلاموفوبيا لا يمكن عزله عن كراهية الأجانب التي تستشري فـي الغرب عموماً ويرافقها تنامٍ لمشاعر تفوق العرق الأبيض المسيحي التي تجر الى متاهات لا تُحمَد عقباها، سبق أن جربتها البشرية إبان الحرب العالمية الثانية والنازية مثال هنا. لكن تبقى حقيقة أنَّ المسلمين اليوم هم الهدف الأسهل للمتعصبين فـي إطار حدود ما يُسمَّى بـ«اللياقة السياسية» المقبولة.
مدينتي وبلدي
«أنا أرفض أن أصبح مطاردة فـي مدينتي وبلدي» صاحت امرأة معترضة فـي اجتماع المجلس البلدي يوم الثلاثاء قبل الماضي، فـي إشارة الى «زحف المساجد والمسلمين» الى المدينة.
وهذا التصريح يعكس عقلية سائدة لدى الكثير من المواطنين الأميركيين القلقين الذين يعيشون هواجس الديموغرافـيا. فهذه السيدة من ستيرلنغ هايتس لا تعني أنها تملك المدينة لوحدها، بل تقول ان المدينة مخصصة فقط للناس الذين يشبهونها وان الولايات المتحدة هي بلد ذوي البشرة البيضاء فقط. وبالتالي، جاء وصفها لستيرلنغ هايتس بانها مدينتها وأميركا بأنه بلدها لوحدها، وأن الناس من أديان وألوان أخرى جاؤوا الى هنا لطردها من بيتها!!.
وأضافت «لدي خبر عاجل لكم… المسلمون يصلون ست أو سبع مرات فـي اليوم. لا يوم الجمعة فقط، لذا فحركة المرور سوف تتحول الى مشكلة تواجهنا كل يوم. هناك رائحة غير طيبة من كل هذا».
ولكننا بدورنا نقدم لهذه المرأة وغيرها ممن أعماهم التعصب والجهل وغيرها، خبراً عاجلاً: المسلمون يصلون خمس مرات فـي اليوم على الأكثر. وخبر عاجل آخر… إن مدينة ستيرلنغ هايتس والولايات المتحدة، لكل مواطنيها، حسب الدستور الأميركي.
والمسلمون والمسيحيون واليهود والبوذيون والهندوس وعبدة الشمس والملحدون وحتى عبدة الشيطان الذين أسسوا لنفسهم معبداً فـي ديترويت مؤخراً، والناس من جميع العقائد والخلفـيات متساوون فـي نظر القانون. والتعديل الأول من الدستور يمنح جميع الأميركيين حرية ممارسة دينهم والتعديل الرابع عشر يمنح كل فرد من المواطنين على هذه الارض حماية متساوية بموجب القانون.
مشكلة المتعصبين وكارهي الأجانب ليست مع الإسلام أو المسلمين فقط، بل مع الدستور الأميركي نفسه. وإذا كان هذا الدستور لا يروق لهم، فإن ذلك لا يجيز لهم بأن يطلبوا من الآخرين الرحيل، ولكن عليهم هم أنفسهم ان يحزموا امتعتهم ويغادروا الى مكان آخر لكي يمارسوا فـيه تفوقهم على باقي البشر انتهى.
Leave a Reply