إعداد: كريستوفر ماثياس، رويدا عبدالعزيز، عفاف همايون، وحسن خليفة
ديربورن تروج نكتة دارجة هنا فحواها أن السكان يتحدثون مع العم سام المتواجد في كل مكان. فالآراء والتعليقات السياسية المثيرة للجدل، وغير المستساغة –وسواء تم تداولها في أماكن العمل أو صالونات الحلاقة أو محلات البقالة أو المطاعم أو المساجد– غالباً ما تختتم بشخص ينظر إلى السقف ويقول شيئاً من قبيل «لم أعنِ ذلك!».
ويشرح المدير التنفيذي لـ«مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية» (كير–فرع ميشيغن) داوود وليد تلك الحالة بالقول: «(عندما ينظر الأشخاص إلى السقف) فهم لا ينظرون إلى الله، وإنما يفعلون ذلك لاعتقادهم بوجود حشرة في مكان ما»، في إشارة إلى وجود جهاز تسجيل قد تكون الحكومة الأميركية زرعته للتنصت على مجتمع يضم أعلى كثافة للعرب والمسلمين الأميركيين في الولايات المتحدة.
ويضيف «عليك أن تنكّت لكي تنفّس عن بعض القلق».
والقلق –الذي يشير إليه وليد– بدأ يتغلغل في ديربورن التي يقارب عدد سكانها حوالي 95 ألف نسمة في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١. المدينة لم تكن معروفة على نطاق واسع في أميركا قبل تلك الهجمات الإرهابية، ولكنها أصبحت منذ ذلك الحين هدفاً لنظريات المؤامرة اليمينية، وكذلك هدفاً للتجريم الأميركي المستمر والممنهج للمسلمين والعرب الأميركيين.
هنا.. توجد مراقبة الكترونية، وحسابات بنكية تغلق فجأة، وجمعيات خيرية توقف عن العمل، وكذلك اعتقالات خاطئة بشبهة الإرهاب، وغارات من قبل وكالات الهجرة، وحظر سفر يمزق شمل العائلات.
ويؤكد وليد «فيما يتعلق بكثير من أحوال اليمنيين الأميركيين.. هنالك قسوة إضافية تضطرهم إلى تقديم التماسات للحكومة الأميركية (لتسمح لهم) باستقدام أفراد عائلاتهم من اليمن، حيث الإمدادات العسكرية الأميركية تُزوّد حملة القصف التي دمرت البلاد، بقيادة السعودية».
ويشير وليد (٤٥ عاماً) إلى حادثة اكتشافه جهاز تنصت في 2010 بمكتبه بمقر «كير» في مدينة ساوثفيلد القريبة، مؤكداً أنه لم يقم بإبلاغ السلطات بذلك، لامتلاكه «حدساً» بأن وكالات إنفاذ القانون –في المقام الأول– من قام بزرع ذلك الجهاز.
ولعل «لائحة مراقبة الإرهاب» هي أكثر ما يبثت استهداف الحكومة الأميركية للعرب والمسلمين في ديربورن، فحكومة الولايات المتحدة ستدفعك إلى الاعتقاد بأن المدينة تضم إرهابيين أو إرهابيين محتملين أكثر مما يضم أي مكان آخر في البلاد. وقد كشفت وثائق استخباراتية سربها موقع «إنترسبت» الإخباري في 2014 عن أكثر خمس مدن أميركية تضم سكاناً أدرجت أسماؤهم في «قاعدة بيانات للكشف عن الإرهابيين»، تعتمد عليها وكالات أمنية متعددة، بما فيها «مكتب التحقيقات الفدرالي» (أف بي آي).
وجاءت مدينة نيويورك التي يقطنها ما يزيد عن 8 ملايين نسمة في المرتبة الأولى وحلت ديربورن التي يقارب عدد سكانها حوالي 95 ألف نسمة في المرتبة الثانية، فيما شغلت مدن هيوستن وسان دييغو وشيكاغو –التي يقطن في كل منها ما يزيد عن مليون نسمة– المراتب، الثالثة والرابعة والخامسة، على التوالي.
ووصف وليد اللائحتين بأنهما «تنميط عنصري علني ومقصود من قبل هيئات وكالات إنفاذ القانون لهذا المجتمع الذي لم ينتج إرهابياً واحداً قام بأي شيء يضر بالوطن».
في هذا السياق، اكشتف رجل الأعمال ناصر بيضون (52 عاماً) ومنذ حوالي ثلاث سنوات أن اسمه مدرج على قائمة المراقبة الأميركية التي تضم حوالي 700 ألف أميركي.
بيضون –الذي يشغل منصب رئيس «الرابطة العربية الأميركية للحقوق المدنية»– لاحظ أن تذكرة سفره على متن إحدى الرحلات المتجهة إلى مدينة شيكاغو، قد كتب عليها حرف «أس» بالإنكليزية مكرراً أربع مرات، في اختصار لما يعرف بـ«اختيار للفحص الأمني الثانوي» Secondary Security Screening Selection.
واختياره لإجراء ذلك الفحص يعني التدقيق الشامل والدقيق لحقائبه وإجراء مسح وتفتيش مضاعف لجسمه، واستجوابه من قبل الوكلاء الأمنيين. ومنذ ذلك الوقت، بدأ الأمر يتكرر في كل مرة يسافر فيها جواً، و«الأسوأ» كان يحدث عندما كان يضطر للسفر خارج أميركا، وفقاً لبيضون.
وحول ما كان يتعرض له، قال: «في كل مرة سيتم سحبي واستجوابي لعدة ساعات، وسوف يقومون بتصوير كل بطاقات الائتمان التي بحوزتي، وجميع وثائقي وهاتفي وأجهزتي الالكترونية». أضاف «سوف يطلبون كل كلمات المرور»، مؤكداً «الله وحده يعلم ما كانوا يفعلون، وبعد ثلاث أو أربع ساعات، عليهم أن يتصلوا بواشنطن للحصول على إذن للسماح لي بالعبور».
في إحدى المرات، يقول بيضون «اصطحبت ابنتي لحضور عيلاد ميلاد لصديق يقطن في مدينة وينزر الكندية التي تقع على مقربة من مدينة ديترويت.. لقد احتجزونا لمدة أربع ساعات ولم تتمكن ابنتي من حضور حفلة عيد الميلاد».
أضاف «أربع ساعات بدون ماء ولا شراب. لا شيء. لقد كان نفس الروتين الذي يقومون به في كل مرة. نفس الأسئلة. يقولون لك: لا يوجد شيء يمكننا فعله. الكمبيوتر يطلب منا أن نقوم بذلك».
على نفس المنوال، يتعرض رجل الأعمال والمدير المدرسي السابق «عبدالله» (40 عاماً)، للتوقيف المتكرر على المعابر الحدودية، مؤكداً أنه تم اعتقاله «حوالي 20 مرة من قبل عملاء الحدود».
عبدالله الذي فضل عدم الكشف عن هويته لكونه يقاضي الحكومة الأميركية لإدراجها اسمه على لوائح المراقبة، وصف أحد التوقيفات الذي استمر لمدة ثماني ساعات بأنه «الأسوأ»، وقال «لا أحد يتحدث إليك. سيحتجزونك في غرفة توقيف بمفردك كأنك تاجر مخدرات أو شيء من هذا القبيل. سيأتون لتفقدك مراراً وتكراراً، وينظرون إليك من خلال النافذة لكي يتأكدوا أنك ما تزال على قيد الحياة، ثم يعودون أدراجهم».
ووفقاً للوثائق السرية التي حصل عليها موقع «انترسبت» الإخباري فإن وكالات إنفاذ القانون لا تحتاج إلى «حقائق ملموسة» أو «أدلة دامغة» لكي تدرج شخصاً ما في «قاعدة بيانات الكشف عن الإرهابيين»، وكل ما تحتاجه تلك الوكالات هو استيفاء معيار «الشك المعقول»، وهو مفهوم فضفاض وغير محدد بشكل جيد وكاف.
علاوة على ذلك، فإنه من المستحيل –في أغلب الأحيان– أن تقوم الحكومة الأميركية بإعلام الأشخاص بأن أسماءهم مدرجة على لوائح المراقبة، كما أنه من الصعب على الأشخاص المدرجين أن يتمكنوا من إزالة أسمائهم من تلك القوائم.
فالطبيب الجراح محمد حكيم (57 عاماً) –وهو من سكان ديربورن– تعرض للاستجواب في المطار للمرة الأولى في شهر أيار (مايو) وتكرر استجوابه في شهر تموز (يوليو) خلال سفره إلى لبنان، ولشعوره بالإحباط والمرارة، بادر إلى مخاطبة وزارة الأمن الداخلي عبر «برنامج استعلام المسافرين» Traveler Redress Inquiry Program (TRIP)، مستوضحاً أسباب استجوابه، وجاءه الرد كالتالي: إن برنامج «تريب» في وزارة الأمن الداخلي لا يمكنه تأكيد أو نفي أية معلومات تفيد بأنك مدرج على لوائح المراقبة الفدرالية ولا يمكننا الكشف عن أي من المعلومات الحساسة لوكالات إنفاذ القانون.
هذا الرد يعني بعبارة أخرى «آسفون.. ولكننا لسنا حقاً آسفين!».
ولم يستجب «مكتب التحقيقات الفدرالي» (أف بي آي) ولا وزارة الأمن الداخلي للتعليق على هذه الحادثة.
وقال حكيم «ليعطوني توضيحاً.. لماذا يحدث هذا.. إذا كنت إرهابياً فعلى الأقل اسمحوا لي أن أعرف ذلك حتى أتمكن من الدفاع عن نفسي.. لا يمكن محاكمتك دون الدفاع عن نفسك.. إذا كنت مذنباً باقتراف شيء ما فليخبروني ما هو الذنب الذي اقترفته».
حكيم وعبدالله وبيضون، ثلاثتهم يؤكدون أنه ليس لديهم أدنى فكرة عن سبب إدراج أسمائهم على لوائح مراقبة الإرهاب، مشيرين إلى أنهم ليسوا وحدهم المدرجين على تلك القوائم، ولجميعهم أصدقاء يتعرضون باستمرار للمضايقة أو الاحتجاز على المعابر الحدودية.
ويضيفون أن تلك التوقيفات «ليست مجرد واجبات لا بد منها»، مؤكدين أنها «تعقد بشدة قيامهم بأعمالهم التجارية خارج البلاد فضلاً عما تلحقه بهم من وصمات عار».
وقال بيضون: إن لائحة المراقبة تعني بشكل أساسي أن الحكومة الأميركية خلقت طابورين على المعابر الحدودية، مضيفاً: «أنت مسلم وعربي فالتحق إذن بذلك الطابور، أما إذا لم تكن مسلماً فاسلك الطابور الآخر».
وقد رفع كل من بيضون وعبدالله دعاوى قضائية ضد الحكومة الأميركية، وكلتا الدعوتين تندرجان مع دعاوى عديدة في البلاد للطعن في شرعية «قاعدة بيانات الكشف عن الإرهابيين». وعندما قاما برفع القضيتين اكتشفا فجأة أنه تمت إزالة اسميهما من قوائم المراقبة.
ويستذكر بيضون ما جرى معه قائلاً: «عندما قمنا برفع القضية، قالت (الحكومة الأميركية) لنا: لقد قمنا بإزالة اسم السيد بيضون من القائمة.. هلاّ أسقطتم القضية؟». ويضيف «لقد قلت: لا.. لأن الأمر لا يتعلق بي وحدي».
وأكد المحامي نبيه عياد الذي يتولى قضية بيضون أن الطريقة الوحيدة لإزالة اسم شخص من لوائح المراقبة هي أن يرفع قضية فدرالية، مستدركاً «الكثير من الناس ليس لديهم الموارد لرفع هذا النوع من القضايا».
في ديربورن، هنالك قلق متزايد من الاستهداف من قبل الأجهزة الأمنية –وتحت ظل حكم الرئيس دونالد ترامب– هنالك خشية من أن يزداد الأمر سوءاً.
وفي نهاية المطاف، فقد تضخمت «لائحة مراقبة الإرهاب» بشكل كبير إبان حكم الرئيس السابق باراك أوباما حتى باتت تضم الآلاف من المسلمين والعرب الأميركيين.
واليوم، يوجد في البيت الأبيض شخص يعتقد أن «الإسلام يكرهنا»، كما لو أن «نحن» لا تشمل المسلمين بالفعل.
Leave a Reply