مريم شهاب
كنت لا أنوي الكتابة عما أصاب بيروت الحبيبة. فالقارئ في غنىً عن وجع الرأس وتكرار ما يحلله المحللون وما يُفتي به المنظّرون، وكله –برأيي– «تغميس خارج الصحن» كما يقول المثل القروي. فبيروت ليست المدينة العربية الوحيدة التي أحبَّت أبناءها، ولكنهم كانوا كأبناء نوح، عقُّوها وكرهوها مرات عديدة، وفي كل مرّة كانت تلملم جراحها وتسامح وتغفر مثل كل أم محبة تبكي وحيدة أولاداً قساة القلوب بلا رحمة ولا شفقة، شربوا حليبها وذبحوها وتقاسموها حصصاً بحسب انتماءاتهم… أحزاب وأديان وتيارات وولاءات خارجية، وهي معتصمة بالصبر، علَّ وعسى يستيقظ أبناؤها ويلتفتون إليها، فلا يكونوا مثل نبات القرع، تزرعه في حقلك ويمتد عند غيرك.
لم تصدق إحدى زميلات العمل الأميركيات هنا في ديربورن، أن لبنان، هذا البلد الأصغر في مساحته وعدد سكانه، فيه مشاكل سياسية ودينية واقتصادية لا تعد ولا تحصى، ويحمل أثقالاً من الهموم والحروب الكفيلة بتصديع إمبراطوريات عظمى.
كانت تعتقد أن لبنان ربما بحجم إيران أو أفغانستان أو الصومال، تلك البلاد المنسية التي لا تنتهي فيها الحروب والمآسي ولا تهتم لها الأخبار العالمية. أذهلها مدى الاهتمام العالمي بما جرى في بيروت وما تعرّض له ميناؤها البحري. تمنيت عليها أن تبحث عن لبنان وتاريخه، أن تتعرف على بيروت، وكيف كانت بيروت.
في اليوم التالي، جاءتني مصدومة متعجبة لهول ما تحمّلته بيروت خلال العقود القليلة الماضية من غدر أبنائها الذين آمنتهم من خوف وأطعمتهم من جوع، كيف تنكروا لها وكيف رموا حجارتهم في مياه عيونها الصافية، وكيف تجرأوا أن يفجروها بالبارود ويشوهوا وجهها بماء النار حتى أبكت مآسيها الغرباء قبل الأقرباء.
هل ستموت بيروت؟ لا أظنّ. سيموت الجميع وتبقى بيروت. سيموت من تعاقب على إذلالها وملأ شوراعها بالقمامة وأطفأ أنوارها ولوَّث مياهها وجعلها مدينة إسمنتية كئيبة حزينة تنتظر فضلات المحسنين بينما يسرقها أبناؤها الزناة.
استقالت الحكومة، لكن متى يستقيل الآخرون؟
أنا كإنسانة أنتمي إلى الطائفة الشيعية، لا أنفي ولا أتبرأ من ذنب العقوق بمدينتنا بيروت. نحن نعيش مع مسيحيين ودروز وسنَّة وملحدين. هل تقربنا من بعضنا البعض كمواطنين، هل استوعبنا ما لنا وما علينا؟ هل أعطينا بيروت حقها؟
Leave a Reply