صورة لا تفارق ذهني شاهدتها بالأمس على دوّار المنارة في قلب مدينة رام الله، لم أكن أحلم بها يوما ولا خطرت على بالي، شرطي فلسطيني مدجج بالسلاح وقنابل الغاز المسيل للدموع وهراوة بيده وقناع أسود يغطي وجهه، ينهال بالضرب على مدني فلسطيني، لم يكن هذا الأخير قاتلا ولا زانيا ولا سارقا لينال ما ناله على يد ذلك الشرطي، كل ما اقترفه الرجل المسكين أنه أراد التعبير عن رأيه في تظاهرة سلمية، خرجت من مسجد جمال عبد الناصر القريب من دوار المنارة يوم إنعقاد مؤتمر السلام في أميركا حول القضية الفلسطينية وراح يهتف بإسم القدس وبإسم فلسطين.لا أعلم إن كان ذلك الشرطي تربى في مرابع سويسرا أو النرويج، حتى لا يعجبه حال ذلك الرجل الذي أدى فريضة الصلاة وانضم لمظاهرة تدافع عن حق الفلسطينيين في وطنهم، أم أنه شرطي تلقى أوامر من قادته بفصله وقطع رزقه إذا هو لم يؤد واجبه «القذر». وتلك حادثة لم تكن منفصلة فقد راح ضحية المظاهرات في عموم الأرض المحتلة في اليوم ذاته قتيل وعشرات الجرحى وربما مئات تم زجهم في السجون.صورة أخرى حدثت هنا في الأرض المحتلة، بعد أيام من إنتهاء مؤتمر السلام، ظاهرها مفرح وباطنها مقيت، الإفراج عن عدة مئات من الأسرى الفلسطينيين ليس بينهم من المقاومة الإسلامية سوى تسعة وعشرين، والباقون من «فتح» ما يعني التأسيس لفصل عنصري وجغرافي بين الضفة وغزة، على أساس من الأيدولوجية والمناطقية خاصة وأن عدد المفرج عنهم المقيمين في غزة لم يتجاوز بضع عشرات، وكأن السلطة الفلسطينية حين كانت تفاوض الإسرائيليين للإفراج عن الأسرى فرقت بين هؤلاء وهؤلاء من المقاومين، ما قد يفضي إلى نزع الروح المعنوية لدى المقاتل الفلسطيني، وجعله يناضل من أجل فصيل لا من أجل قضية، وبذلك يكشف عنهم الغطاء كمناضلين وطنيين ليصبحوا جنودا مرتزقة عند هذا القائد وذلك الزعيم. أما وقد نجحت إسرائيل حتى اللحظة في تجزئة الفلسطينيين بين معتدلين ومتطرفين، وبين من هم داخل الأرض المحتلة ومن هم خارجها، وبين من هم داخل الخط الأخضر ومن هم في «المناطق المدارة» ويعنوا بذلك الضفة الغربية باستثناء القدس، فقد آن الأوان لهم (الإسرائيليون) أن يلتفتوا لمسألة أكثر أهمية لأمنهم الإستراتيجي، مسألة طالما أرقتهم وهي البعد الديمغرافي بعد أن وصل عدد الفلسطينيين داخل إسرائيل زهاء مليون أو يزيد.في هكذا لحظة فجّر ايهود أولمرت قنبلة «الدولة اليهودية» وجعلها شرطا لبدء مفاوضات السلام، ليضعها جورج بوش أساسا لحل الدولتين واحدة يهودية والأخرى فلسطينية، وذلك من شأنه العمل على تخلّص إسرائيل من مئات الآلاف من مواطنيها غير المرغوب بهم بما في ذلك مناطقهم المقيمين عليها ضمن برنامج مبادلة الأراضي والسكان مع الدولة الفلسطينية العتيدة.الصورة الدموية في المشهد الفلسطيني بعد أيام من مؤتمر السلام، كان مسرح الأحداث فيه غزة والقطاع، حيث لم تهدأ آلة الحرب الصهيونية عن دك المدن والمخيمات والبلدات في القطاع الصامد، وهي ألحقت بالمدنيين ورجال المقاومة خسائر فادحة، تكاد لا تمر ساعة دون سماع دوي الإنفجارات والقصف والصواريخ الموجهة، ودبابات العدو ودروعه تحيط بغزة إحاطة السوار بالمعصم، تنتظر ساعة صفر يحددها أولمرت وباراك وغابي إشكنازي لبدء هجوم برّي هدفه تدمير معاقل المقاومة وقتل رجالها وسوق قياداتها إلى المعتقلات الإسرائيلية، تمهيدا لإعادة تتويج محمود عباس «ملكاً» على كامل الأراضي المحتلة بالحديد والنار، فهل يقبل أبو مازن يا ترى أن يدخل غزة على وقع نحيب نسائها ودموع أطفالها وأجساد شهدائها؟
Leave a Reply