محمد العزير
مات عبد الحليم خدّام. ليس لهذه الجملة أي وقْع أو أثر. خبر لا يترتب عليه شيء. هي جملة مفيدة فقط، وفق قواعد اللغة العربية، التي يعتبر فيها فعل الموت موضع التباس فلا يكون الميت فاعلًا ولو جاز تصريفه البسيط على هذا النحو. دور الفاعل في اللغة إرادي، وفي المضمون لا أحد يموت بإرادته إلّا من ينتحر. حتى في خبر موته لم يكن خدام (88 عاماً) فاعلاً، كما لم يكن طوال حياته العامة المليئة بالأحداث.
خبر نعيه كان ملائماً، فأجمعت الصحف ونشرات الأخبار الصوتية والمرئية ونصوص مواقع التواصل الاجتماعي على وصفه بـ«نائب الرئيس السوري الأسبق»، فيما هو دستورياً وقانونياً وعرفياً، رئيس شرعي سابق لسوريا في الفترة الممتدة بين وفاة الرئيس الأسبق حافظ الأسد في العاشر من حزيران (يونيو) عام 2000، ووراثة ابنه الرئيس الحالي بشار للمنصب في السابع عشر من تموز (يوليو) من العام نفسه. كانت مهمة خدّام، التي لم يجرؤ هو، ولم تجرؤ أية وسيلة إعلام أو مؤسسة سورية على اطلاق لقب رئيس عليه، خلال هذه الفترة، إنجاز المطلوب منه للتوريث. طلب وأقر تعديل الدستور لتصغير السن القانوني للمرشح للرئاسة من أربعين سنة الى 34 سنة (عمر بشار في حينه) وتوقيع مراسيم ترقية بشار دفعة واحدة من رتبة عقيد في الجيش السوري الى رتبة فريق وتعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة.
لخصت تلك الفترة التي لم تطأ فيها قدما خدّام قصر المهاجرين، مقر الرئاسة الرسمية السورية، الّا لأوقات محدودة ضمن مراسم التعزية والتشييع، مسيرة رجل عايش مراحل حاسمة في تاريخ بلد عربي مهم وجواره من موقع الموظف المستوعب لمحدودية دوره، والمستعد ليكون ضمن بلاط ملكي في جمهورية يفترض انها قامت على أسس ومبادئ حزبية نظامية شعارها الوحدة والحرية والاشتراكية. كان يعرف أن الشعارات في ظل حكم ديكتاتوري مجرد شعارات، وأن دوره مطلوب ليس لميزات باهرة أو لحيثية واضحة، بل كواجهة أكثرية تغطي حقيقة الحكم الأقلوي.
لم يكن خدّام، ابن الريف المولود في بلدة بانياس قرب طرطوس، الذي انتمى إلى حزب البعث العربي الاشتراكي (النسخة العربية من الأحزاب الفاشية الأوروبية في عشرينيات القرن الماضي)، في المرحلة الثانوية، وانتقل الى العاصمة السورية طالباً للحقوق في جامعة دمشق، من خامة الضباط الأحرار الذين حكموا مصر بقيادة جمال عبد الناصر بعد انقلاب عسكري في يوليو 1952 والذين وصل البعض منهم الى النجومية أو إلى حتفه، ليس فقط لأنه لم يكن عسكرياً، حين قام البعث بانقلابه العسكري عام 1963، بعد انقلاب (الانفصال عن مصر عام 1961)، فحتى ضباط البعث أمثال الراحلين حكمت الشهابي ومصطفى طلاس تحولوا تلقائياً إلى متممات مظهرية، وقبلوا بعد إحكام الأسد الأب سيطرته على الحكم في انقلاب الثامن من آذار 1970، (الحركة التصحيحية)، أن يتحولوا إلى موظفين برتب وزارية وقيادية في البلاط الجمهوري فيما كانت السلطة الحقيقية منفردة في يد الرئيس.
لم يكن دور الموظف جديداً على خدّام، كما لم يكن ولاؤه للأسد الأب منذ كان وزيراً للدفاع أيام حكم صلاح جديد. كوفئ خدّام لولائه للأسد بتعيينه محافظاً للقنيطرة، ومن الوصمات التي لاحقته طوال حياته أنه أعلن بنفسه، في اليوم الأول لحرب الخامس من يونيو، التي انتهت بهزيمة ساحقة (النكسة) للعرب وسقوط مدينة القنيطرة بيد الاحتلال الإسرائيلي قبل يوم كامل على وصول أول آلية عسكرية إليها. بعدها شغل خدّام منصب محافظ حماة ثم دمشق، ليكافأ مجدداً بعد سيطرة الأسد التامة على مقاليد الحكم بمنصب وزارة التجارة الخارجية ثم منصب وزير الخارجية عام 1970، ثم نائباً للرئيس من العام 1984 وحتى تاريخ خروجه من سوريا وإعلان انشقاقه بعد خمس سنوات من حكم بشار.
لمع اسم خدّام بقوة مع الدخول العسكري السوري إلى لبنان بعد نشوب الحرب الأهلية فيه، ومنحه دوره كأحد المسؤولين عن الملف اللبناني نفوذاً لم يكن يحلم به في سوريا. استفاد من الانفتاح الإعلامي في لبنان ومن السيولة المالية في سوقه الاقتصادي الحر، معطوفين على تنابذ وأحقاد وأطماع النخب الطائفية والسياسية والمالية اللبنانية، ليصبح نجماً ومرجعاً تسعى إليه الشخصيات اللبنانية وتتنافخ مفاخرة باللقاء به، بينما كان همه الأكبر جني المال والعقارات من خلال الطبقة السياسية في لبنان، فذاع صيته إعلامياً كمهندس للسيطرة السورية على لبنان وطرد ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية منه. هكذا أرادت القيادة أن يكون دوره، وكان مطواعاً مثل وزير الدفاع مصطفى طلاس وقد تعلم درس المنفى الذي واجه كبير الضباط السوريين المحترفين حكمت الشهابي وغيره من كبار الرتب الذين تم نفيهم وسجنهم أو إبعادهم دبلوماسياً إلى السفارات السورية في البلدان الصديقة ليكونوا على الدوام تحت نظر النظام.
تشبه تجربة خدّام في سوريا، الكثير من أقرانه مثل عبدالله الأحمر ومصطفى طيارة… أو مثل رفاقه–الأعداء في التجربة البعثية الأخرى الأكثر دموية في ظل صدام حسين في العراق، أمثال طارق عزيز ومحمد سعيد الصحاف وعزت الدوري. تجربة تمثل خواء النخب العربية في ظل الانقلابات والأنظمة العسكرية التي سادت وتمادت في الخمسينيات من القرن الماضي وحتى الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.
نخب افتقرت إلى الشجاعة، أو جزعت من البطش الذي كانت شاهدة عليه فاكتفت من السلطة بالثروات والاستثمارات، وهي الحكاية التي استنسخت نفسها من مصر إلى سوريا إلى ليبيا إلى السودان وتونس أيام زين العابدين بن علي، وصولًا إلى اليمن والجزائر، وعندما قررت العائلات الجمهورية أو الجماهيرية الحاكمة، الاستثمار مباشرة ولم يعد هناك حياء «ثوري»، بدأ التخلي عنها أو اقتطاع حصص اكبر من مردودها. لكن خدّام كان مختلفاً بعض الشيء، شأنه شأن عبد السلام جلود في ليبيا. كان أحياناً يحاول أن يظهر كشريك أو ينظر لموقع من هذا النوع، إلا أن الأنظمة الفردية لا تسمح بهوامش كهذه. وفي عز تحقيق خدّام لأحلامه المالية بعد اكتشافه لكنز رفيق الحريري في لبنان، اصطدم الأسد بنائبه الذي انتظر عشرة أشهر كاملة بعد اغتيال «صديقه» في بيروت ليتدبر أمر خروجه الهادئ من سوريا بعد تجريده من مناصبه الحزبية والرسمية.
بالطبع لم يكن إعلان خدّام انشقاقه عن النظام عبر وسيلة إعلام سعودية (قناة العربية) في كانون الأول (ديسمبر) 2005، موقفاً مبدئياً من جريمة اغتيال الحريري السعودي الجنسية والهوى، بل كان انتقالاً علنياً لبندقية (لسانه) من كتف إلى آخر، نتيجة استعجال في تقدير مآلات المحكمة الدولية التي كانت في طور النشوء، والتي توقع خدّام أن تطيح بنظام سيده السابق، فأعلن تشكيل جبهة وطنية من المنفيين (استعداداً للسلطة)، إلا أن متغيرات المنطقة بعد حرب تموز الإسرائيلية على لبنان عام 2006، أطاحت أحلام خدّام ومعها الجبهة، فأمضى سنواته الأخيرة كمواطن ثري يعيش في قصر «أوناسيس» الذي أهداه إياه الحريري أيام الصداقة، ثم مات حتف أنفه.
Leave a Reply