د. فراس عبد الرزاق السوداني
عاد الفيلم «عَدْوى» Contagion بقوّة إلى الواجهة بُعيد تفشّي «كوفيد–19»، رغم مرور تسع سنوات على عرضه، ذلك أنَّه يحكي قصّةً مُشابهة تقتربُ في إطارها العام وتفاصيلها من جائحة اليوم، وهو ما حدا بأنصار نظريّة المؤامرة إلى نَبْش الفيلم ونسج سيناريوهات مُختلفة حول بواعثه ودوافعه ومَن يقف وراءه.
ولأجله حرصت على مُشاهدة الفيلم وتحليله، وهذه مُراجعتي له:
– توفّرت للفيلم أسباب النجاح من ميزانية سخيّة ومخرِج مُحترف (ستيفن سودربيرك) وكاتب كبير (سكوت بيرنز) مع حشد من نُجوم هوليوود كمات دَيمُن وماريوت كوتيلارد ولورنس فيشبورن وجود لَو وكيت ونسلوت وجونيت بالترو.
– وزّع الكاتب بذكاءٍ نادر، الأدوارَ بين فريق العمل؛ ليقترب من واقع مُكافحة الأوبئة والجوائح الصحيّة القائمة على عمل الفريق، ضانّاً بعمله على التسطيح الذي تُعانيه أعمال هوليووديّة كثيرة تُبنى على البطولة المطلقة.
تحارُ بين أبطال هذا العمل، مَن منهم استحوذ على حصّة الأسد من أحداث القصّة، وهو ما يجعلك تتحرّر من إسار «الشخصيّات» وانفعالاتها رغم الأداء الرائع؛ لتتفرّغ لمُتابعة «الحدث» المزدحم بالمشاهد والحوارات والتفاصيل، وهو ما «قد» يؤشّر شيئاً من ضَعف الجانب الشُّعوريّ فيه.
قواسم مشتركة مع كورونا:
– منشأ «كوفيد–19» الصينُ، لكنّه في الفيلم يظهر في «هونغ كونغ» الميناء وليس في ووهان، وسط الصين وعاصمتها مَرَّتين في العصر الحديث.
– الحديث عن انتقاله للبشر من أسواق السّمك، ثمّ يتبيّن أن ناقله إلى البشر «الخفافيش» عبر خِنزير، بل استطاع عالم أميركيّ من إنمائه في خلايا خفّاش وهي الخطوة الأولى في الطريق الطويل لإيجاد لُقاح.
– العدوى تبدأ في عطلة عيد الشكر (شهر نوفمبر)!
– المرض ينتقل بين العواصم الكُبرى في العالم، والحكومات تحاول التكتّم عليه في البداية مع استنفار مُنظّمة الصحّة العالميّة.
– الحديث عن مؤامرات واحتمال حرب جرثوميّة!
– مقارنة خسائره بالإنفلونزا الإسبانيّة التي حصدت 1 بالمئة من نفوس العالم سنة 1918.
– الفيروس يُصيب جهاز التنفّس وهو قريب من «سارس» والأعراض مطابقة لـ«كوفيد–19»، وينتقل عبر اللمس ومسّ الأسطح المختلفة في الأجواء الباردة والخوف من انتقاله بالأحذية؛ لأنّ وزنه ثقيل نسبياً!
– تسيير الأمور عبر الإنترنت.
– خلوّ دور العبادة من المصلّين، والتركيز على صورة مَسْجد فارغ!
– هجوم الناس على الأسواق بصورة بشعة، وازدياد عمليات الاقتحام والسطو والسرقات.
– انهيار النظام الصحّي، وتحويل الملاعب الرياضيّة إلى ردهات عزل وتمريض!
– استعجال الحديث عن دواء (من الأعشاب) لأغراض تحقيق الربح السريع في الأزمات ومحاولة تكذيب الحكومات واتّهامها بالتماهل.
اختلافات:
– معدّل الوفيات بين المصابين في الفيلم أكبر منه في جائحة اليوم (25–30 بالمئة) ويقضي على 26 مليون نسمة حول العالم.
– إنتاج لقاح بعد 133 يوماً من تاريخ إعلان تفشي الفيروس وإنتاجه بكميات كبيرة بعد 500 يوم وتوزيعه بين المستفيدين بالقرعة.
الغريب هنا أنّ الفيلم يذكر البدء بمواليد 10 مارس كأوّل المستفيدين من الفيروس، وهو تاريخ إعلان كوفيد–19 جائحةً عالميّة!
وفي الفيلم بعض القفزات غير المحسوبة، كحديث أحد العُلماء عن حدوث تحوّر في الفيروس، ثمّ لا يوظَّف ذلك في أيّ مشهد لاحق ولا يكون له أثر على الحبكة.
رسائل مخفية:
– التأكيد على الدور التخريبيّ لمواقع التواصل الاجتماعيّ والإعلام المنفلت في الأزمات والكوارث ودناءة تُجّارها.
– فضح الجانب المُظلم لغريزة البقاء عند الإنسان، التي تجرّده بعضُ مظاهرها من إنسانيته وتُلحقه بجُملة الحيوانات غير الناطقة.
– المحسوبيات موجودة في أعلى مُستويات المجتمع بما عرضه من موقف كبير الأطباء في وكالة المخابرات المركزيّة لمّا أخبر زوجته بمآل الأمور وطلب منها مغادرة المدينة المنكوبة، رغم أنّها معلومات شديدة الحساسيّة.
– الاستثناءات موجودة أيضاً، بعرض الموقف النبيل لكبير الأطباء ذاته بعد صحوة ضَمير تبرّع فيها بحصّته من اللقاح الذي اقتتل عليه الناس وجعلته الحكومة بالقرعة لطفلٍ مُصاب بطيف من التوحّد، هو ابن عامل النظافة في المؤسسة التي يعمل فيها الطبيب. وقد جعل الكاتب كبيرَ الأطباء «أسمر» والطفل «أبيض» وهي رسالة أخرى.
ممّا تقدّم، يتبيّن الشَّبَه الكبير بين قصّة الفيلم وجائحة اليوم، رغم الاختلافات الطفيفة التي أشّرتها هنا، فهل من علاقة مؤكّدة بينهما؟
بحثت في سيرة الكاتب وخلفياته، فما وجدت غير تخصّصه بالأدب الإنكليزيّ واختصاصه بكتابة قصص الإثارة والمُخابراتيّة، وهو ما يُعطي أنصار نظريّة المؤامرة بصيصَ أمل، إذ يرتبط كثير من كُتّاب الجاسوسيّة والحروب السريّة بعلاقات جيدة مع دوائر الاستخبارات؛ لأنّها معينُهم الذي لا ينضب في الكتابة المؤثّرة.
لكنْ، من وراء تحليل أحداث القصّة ومساراتها أستبعد صِلة الفيلم بجائحة اليوم، فخيال الأُدباء مُجنّح لا يُستغرب معه هذا التوافق، خاصّة مع انتشار أوبئة سابقة.
وكُتّاب الغَرب عموماً، باحثون جادّون يبذلون جُهوداً مُضنية في ما يكتبون، ويتّخذون من أهل كلّ اختصاص مُستشارين في ذلك. صرّح بهذا كثير منهم كدان براون مثلاً.
وربما استلهم الكاتب فكرة الفيلم من قُرب مئويّة الإنفلونزا الإسبانيّة (1918) وهي فكرة تستحوذ على البعض وأنَّ الأحداث الجسام في التاريخ تعود ذاتها كلّ مائة سنة.
Leave a Reply