عند قدومي إلى مدينة ديربورن، قبل مئة سنة، كانت مدرسة «فوردسون» تدرس الإنكليزية كلغة ثانية للقادمين الجدد من كافة الجنسيات، وكتلميذة شاطرة عليّ أن أتعلم اللغة الإنكليزية، لأن «العربي ما بيفيد»، على رأي زياد الرحباني، وبالفعل كانت المدرّسة إسمها ماري جونز وكانت تتهجّى وتعيد لنا الدروس والكلمات الإنكليزية، والبعض كان يذهب ليتعلم بصورة جيدة، والبعض الآخر للتنكيت وتضييع الوقت والكثير كرها وجبراً لأن دائرة «الولفير» تقطع عنه المعاش الشهري إذا لم يعمل أو يذهب إلى المدرسة. ولأن المدرسة أهون من العمل وبسبب عدم جدية الحاضرين وكذب الكثيرين توقف برنامج تعليم ثنائي اللغة في «فوردسون».
أنا شخصياً تعلمت كثيراً وأثرت بي التجربة، حيث كانت المعلمة تسألنا ماذا فعلنا وماذا تكلمنا مع الجيران وما الذي فعلناه في نهاية الأسبوع وما هو العمل الذي إشتغلته ولم تحبه. تجارب ومواقف بسيطة من الحياة نتعلم منها وتمضي من دون أن ننتبه إليها.
على ما أذكر، كان عيد الشكر، وهي أول مرّة أسمع بعيد كهذا، ومن أجل المشاركة طلب من البعض إحضار المواد اللازمة لعمل كعكة عيد الشكر من ثمرة اللقطين أو اليقطين. وبالفعل تم إحضار الطحين، السكر، الخميرة والزيت وعلب اليقطين الجاهز للحشو، وعلى طاولة واسعة قمنا بتحضير الكعكة أو الفطيرة ووضعناها في فرن خاص حتى تنضج، ثم طلبت منا المعلمة كتابة موضوع عن تلك التجربة وقيمة المشاركة الجماعية في العمل، وهو مغزى عيد الشكر، أن يتشارك الجميع في جو أليف في إعداد طبق لذيذ ومن ثم المشاركة في أكله.
بعد نضج الكعكة، قطعتها المعلمة إلى قطعٍ لتقدمها للطلاب، وعندما جاء دوري، سألتني: هل تريدين قطعة من الكعكة؟ أجبتها: لا. ثم قالت لي ما رأيك بكوب من القهوة فأجبتها: نعم.
عند إنتهاء الدرس وخروج الجميع نادتني المعلمة ماري طالبة فيما إذا كان لدي خمس دقائق لنتكلم معاً. فوافقت.
قالت لي المعلمة: نحن هنا إذا قدم أحدهم لنا شيئاً لا نجيبه بـ لا أو نعم فقط بل نقول «يس بليز» أو «نو ثانك يو»!! وإذا أخطأ أحدهم يعتذر فوراً قائلاً «إكسيوزمي»، فأرجو الإنتباه و«غودلاك».
ملاحظة المعلمة البسيطة التي قالتها لي على انفراد، لفتت نظري إلى الطريقة التي يشكرني فيها البائع عندما أدفع ثمن البضاعة أو كلما أقدم ولو شيئاً بسيطاً لجاري الأميركي، وجعلتني أنتبه إلى كلمة الإعتذار اللطيفة الذين يقولها الناس لبعضهم إذا أراد أحد المرور في مكان ضيق متجنباً الإحتكاك بأحدهم.
عيد الشكر والتجربة البسيطة هذه، تذكرني كل سنة بإرتباكي أمام المعلمة وعجزي عن قول كلمة «ثانك يو» أو شكراً للمعلمة عندما قدمت قطعة من الفطيرة، لأن الشكر موقف لم آلفه كثيراً لقلة ما يستدعي ذلك في حياتي اليومية كإنسانة عربية غير داجنة لا تتغزل بالحروب والقصف والملاجىء وإنقطاع الكهرباء والماء والديوك المتغطرسة في أسواق الرياء، ولم يسبق أن قال لي أحدهم كلمة شكراً لعطاءات كثيرة كنت أقدمها بالمجان ودون إنتظار كلمة مديح أو ثناء. في المقابل، كان الفشل حليفي في مرات نادرة وقليلة تتطلب مني تقديم الشكر أو الإعتذار في مواقف نادرة جداً تطغى فيها الخيبة وقلة الوفاء.
تعلمت الدرس وصرت أشكر وبصدق ومن كل قلبي وصارت لدي القدرة لأعتذر إذا قمت بخطأ ما. وأنا أقدم شكراً حاراً لكل من يقرأ كلماتي وتعجبه ولمن لا تعجبه أقول له : آي آم سو سوري!
Leave a Reply