رئيس الجمهورية قلق من نتائج الانتخابات لتكريسها الطائفية ويعمل لورشة اصلاح سياسي
جرت الانتخابات النيابية كاستحقاق دستوري بهدوء، ووفق قانون اعتبره البعض أنه أسوأ قوانين الانتخابات، وأن العودة إليه كانت خطأ، فهو مصنوع للطوائف والمذاهب في العام ١٩٦٠، وقد تخلى عنه صانعوه، لأنه كان من احد أسباب الحرب الأهلية، التي اندلعت في العام ١٩٧٥، فهو كان المحرك للشعور الطائفي، والمذهبي، وقد لمس اللبنانيون في الانتخابات الأخيرة، كيف أن هذا القانون قادهم إلى التخندق في طوائفهم، وإلى السير وراء زعماء وأحزاب وتيارات الطوائف.
والخلاصة التي انتهت إليها الانتخابات، هو شبه الإجماع على ضرورة وقف العمل بقانون القضاء دائرة انتخابية، واعتماد نظام النسبية بدلاً من الأكثرية، وهذه الدعوات للتغيير انطلقت من كل المراجع الرسمية والحزبية والسياسية وحتى الروحية، تطالب بقانون للتمثيل السليم، وأن النظام النسبي هو الأفضل لكسر الاحتكار السياسي والطائفي والمذهبي، وضرب استعمال المال الانتخابي، والخروج من الرشوات الاجتماعية عبر مساعدات تربوية وصحية آنية، وخدمات ظرفية.
فالنسبية تقدمت وباتت مطلباً وضعه رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، في أولى اهتماماته، ووعد بأن يكون أول قانون يصدر بعد الانتخابات، هو الذي يعتمد النظام النسبي، وتتوسع الدوائر باتجاه المحافظة كحد أدنى، وهو ما أشار إليه اتفاق الطائف.
فهذه الانتخابات عزّزت الطائفية وكرّست المذهبية، ورسّخت الاقطاع السياسي والمالي، وفرضت المحادل والبوسطات، فلم يعد بمقدور مرشح طموح صاحب برنامج سياسي، أن يتقدم إلى الانتخابات، إذا لم يكن منضوياً في حزب أو تيار طائفي، أو تابعاً لزعيم اقطاعي، أو صاحب مال كبير يغطي نفقات اللائحة، أو يدفع لرئيسها أو يرشي المواطنين.
وللخروج من انتخابات طائفية، لا بد من إنهاء الحالة الطائفية، بكل أشكالها، وتحطيم مؤسساتها، وإلغاء كل القوانين التي تعززها، وقد رسم اتفاق الطائف خارطة طريق للخروج من الواقع الطائفي، وتعديل المادة ٩٥ من الدستور، التي قالت بان الطائفية حالة مؤقتة لا بد من الخروج منها، وهذا الكلام كان في العام ١٩٤٣، لكن المؤقت أصبح دائماً، ووّلد أزمات وحروب للبنانيين، فاتفقوا في الطائف على الخروج منها، ولكن لم يتم تطبيق إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، ومر عشرون عاماً على وضع النص في وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، ولم يجرؤ أحد على التقدم نحو تنفيذ أهم بند إصلاحي وهو نقل لبنان من الحالة الطائفية لنظامه السياسي، إلى الحالة المدنية، وقد وردت بنود في اتفاق الطائف تشير كلها إلى نقل لبنان من النظام الطائفي إلى النظام المدني، باعتماد قانون انتخاب خارج القيد الطائفي وإلغاء طائفية الوظيفة باستثناء الفئة الأولى، للمحافظة على المناهضة في توزيع الوظائف دون أن يعني حصرها في طائفة معينة، وإصدار قانون للأحزاب يمنع نشوء أحزاب طائفية.
ويبدو أن رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان قرر أن يدخل في ورشة إصلاح سياسي، هو المدخل نحو لبنان دولة مدنية، قائمة على مؤسسات خارج لعبة التوازنات الطائفية، بحيث لا تبقى هذه المؤسسة تابعة لهذه الطائفة أو ذاك المذهب، كما هو حاصل الآن، في كل المؤسسات المدنية منها والعسكرية والأمنية والقضائية.
فالرئيس سليمان يعلن في خطاباته وكلماته وأمام زواره، أنه لن يسمح ببقاء الوضع كما هو، وقد أعطته الانتخابات إشارات سلبية عن الاصطفافات الطائفية والمذهبية، وبات قلقاً على الوضع الداخلي، من انفجار طائفي أو مذهبي، إذا لم يتم تداركه سريعاً من خلال وضع الجميع أمام مسؤولياتهم بوقف إنتاج ثقافة طائفية ومذهبية، ولا بد من العمل نحو ثقافة وطنية، وتأهيل اللبنانيين باتجاه الولاء للدولة، ومن يرفع شعار العبور إلى الدولة، لا يمكنه أن يقبل استمراه كحاجدز بين المواطن والدولة، وأن يمر المواطن عبر معبر زعماء الطوائف وأحزابها إلى الدولة، توظيفاً وإنماءاً وخدمات، وقد حاول الرئيس فؤاد شهاب، ان يؤمن للمواطن عبوراً الى الدولة من خارج المراجع الطائفية، عبر مؤسسات الدولة فقط، فحصر التوظيف بمجلس الخدمة المدنية، وعبر مباراة يعلن عنها للوظائف التي تحتاجها الدولة، وتكون الأولوية لصاحب الكفاءة والفائز في المباراة، لا للشخص الموصى به من قبل زعيم الطائفة، أو المحسوب انتخابياً عليه.
فورشة الإصلاح التي وعد بها الرئيس سليمان لا تقوم، إلا إذا قام بها إصلاحيون، وواكبها أصحاب مشاريع إصلاحية تغييرية، ودعمها من لا يريدون الدولة مزرعة لهم، واستصدارالقوانين وفق مصالحهم الفئوية والسياسية، وهؤلاء الإصلاحيون موجودون، وبدأوا يتحركون باتجاه تكوين تيار إصلاحي، أو جبهة للإصلاح، تقف وراء رئيس الجمهورية، وتعمل معه، وتؤسس لثقافة إصلاحية، من خلال وعي شعبي، بحيث يشكل حول الرئيس حزام أمان، يحمي هذه الورشة الإصلاحية، ويمنع إسقاطها من قبل زعماء الطوائف وأحزابها، واقطاعيي المناطق، وأصحاب الرساميل من ذوي الاختصاص بالاحتكار والصفقات على حساب خزينة الدولة.
وهذا الإصلاح، يجب أن تتوفر له حكومة تأخذ على عاتقها القيام به، لأنه لا يمكن أبداً إبقاء الوضع على ما هو عليه، وقد حاول الرئيس السابق اميل لحود مع بداية عهده، أن يطلق برنامجاً للإصلاح، وقد بدأه، بمحاربة الفساد، ووضع الفاسدين والمفسدين في السجن، لكن ما نسف هذه التجربة التي قادها الثنائي إميل لحود وسليم الحص كرئيس للحكومة، أنها طالت موظفين، ولم تصل إلى الفاسدين الأساسيين من رؤساء وزعماء، الذين تمت حمايتهم من مراجع سورية سياسية وأمنية، كانت لها تأثير على الساحة اللبنانية، إضافة إلى أن بعض السياسيين ممن كانوا حول لحود، تعاطوا بكيدية أحياناً مع بعض الملفات لغايات سياسية وشخصية، فتم تفشيل الإصلاح، بسبب تكالب مصالح الفاسدين المحليين مع آخرين سوريين، إضافة إلى استخدام السلاح الطائفي والمذهبي في إقفال ملف الإصلاح.
وأمام الرئيس سليمان هذه التجربة، وعليه أن يستفيد منها، ويمكنه من موقعه التوافقي، حيث لم يظهر أنه صاحب أغراض شخصية أو فئوية، أن يمارس دوره وصلاحياته في تحقيق الإصلاح، ويطالب الحكومة ورئيسها مواكبه هذه الورشة، ويفرضها في البيان الوزاري. وإذا كان سعد الحريري يطرح نفسه إصلاحياً ورئيس حكومة غير تقليدية، وأنه سيطبق برنامجاً إنقاذياً، عليه أن يراجع المرحلة السابقة التي كان فيها والده رئيساً للحكومة، والأسباب التي أدت إلى وصول الدين العام الى حوالي ٥٠ مليار دولار، يتكبد اللبنانيون أكثر من أربع مليارات دولار سنوياً خدمة له، بما يبقي الموازنة بعجز، بحيث لجأت الحكومات المتعاقبة للحريري الأب ولفؤاد السنيورة مؤخراً، إلى فرض الرسوم والضرائب، حيث امتلأت السلة منهما، دون ان يتراجع الدين أو ينخفض، او يتحرك الاقتصاد ويكبر النمو.
فالحريري الابن رئيساً للحكومة، عليه أن يقول للبنانيين، لماذا هذا الدين، وهل مؤتمرات باريس ١ و٢ و٣، غيرّت من الواقع، وهل الإصلاح الذي جاء في ورقة الحكومة السابقة إلى باريس -٣، كانت ستغير من الواقع القائم، والخروج من نفق المديونية، وتحسين الوضع المعيشي للمواطنين، ودفع عجلة الاقتصاد، وقد حذر النائب وليد جنبلاط من اعتماد الحكومة الخصخصة، وهدد بعدم مشاركته في الحكومة التي ثمة صعوبات تواجه تشكيلها لجهة حصص الكتل النيابية داخلها والحقائب الوزارية، اضافة الى مطالبة المعارضة بالثلث الضامن، ورفض الحريري وقوى الموالاةالتجاوب معها، وهذا سيعرقل تشكيلها، لا سيما بعد ان اعلنت قطر انتهاء مفاعيل اتفاق الدوحة الذي اعطى الثلث الضامن للمعارضة، وهذا ما حرًك الاتصالات السورية-السعودية للمساعدة في اخراج الحكومة الجديدة التي يقول رئيسها المكلف انه يريدها ان تتمثل فيها القوى السياسية الاساسية ، لكنه لم يتحدث بعد عن شكلها وعدد حقائبها، وهو يطالب بأن يكون الثلث الضامن لرئيس الجمهورية الذي يؤكد انه لن يوقع مرسوم تشكيل الحكومة اذا لم تكن وحدوية ووفاقية.
وبانتظار التوافق تشكيل الحكومة التي تننظر الرعاية العربية لولادتها فإن الإصلاح السياسي الذي يطرحه الرئيس سليمان، تفكير سليم وصحيح، وينقل لبنان من واقع مهترئ وفاسد سياسياً، إلى واقع أفضل، لكن الإصلاح الاقتصادي والمالي، كيف سيترجمه سعد الحريري في الحكومة، طالما لم تتغير سياسته، وهو يستند الى أن دور لبنان، هو دور الوسيط والتاجر والسمسار المالي (المصارف)، والعقاري (بيع الاراضي)، والسياحي (المقامرة والمعاهرة)، اي خلق طبقة تجار وخدمات، ورمي الكفاءات والأدمغة من الشباب الذين تخرجهم الجامعات في لبنان والخارج في أسواق عمل في المغتربات، لأن لا عمل لديهم في وطنهم، مع ارتفاع البطالة إلى حدود ٣٠ بالمئة، وازدياد الفقر إلى ٢٥ بالمئة وأكثر، وتدفق الهجرة إلى الخارج، حيث بلغ عدد الذين غادروا لبنان منذ توقف الحرب الأهلية في العام ١٩٩١، أكثر من مليون ونصف مليون لبناني، النسبة العاليه منهم، هاجرت مع منتصف التسعينات من القرن الماضي، وبعد ثلاث سنوات من وصول الرئيس رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة، حيث بدأت الاستدانة تحت عنوان الإنماء والإعمار، ومعها ارتفع الدين العام وخدمته، وبدأت الكوارث الاقتصادية والمالية والاجتماعية، التي لم تتوقف حتى الآن وهي على تصاعد.
فهل سعد الحريري سيكمل ما بدأه والده واستمر فيه السنيورة، باستمرار السياسة نفسها المالية والاقتصادية والاجتماعية، ومعنى ذلك أن لبنان قادم إلى انفجار اجتماعي واقتصادي، إذ واصل الدين العام بالارتفاع.
Leave a Reply