بقلم: كمال العبدلي
تتمّة بحث الكاتب فائز الحيدر
صالح جبر يتحدى الشعب
«وصل بغداد صباح يوم 16 /1 / 1948 صالح جبر وأعضاء الوفد المفاوض وعقد رئيس الوزراء على الفور اجتماعاً في قصر الرحاب بناء على دعوة الوصي عبد الإله والتمس إمهاله فترة وجيزة لإرجاع الأمور الى مجاريها وإعادة الهدوء والنظام، ولم يلبث أن وجه خطاباً مساء اليوم التالي معلناً بأنه سيمضي قدماً في إبرام المعاهدة وكبح إرادة الشعب، فقابلت جماهير الشعب إصرار صالح جبر وتحديه لإرادتها بتظاهرات صاخبة كبرى حاصرت البلاط الملكي وهي تهتف بسقوط الوزارة وإلغاء المعاهدة وتصغي الى الجواهري وهو يلقي قصائده الثورية في ساحات بغداد، وفي الباب الشرقي وبجانب تمثال السعدون وقف كامل قزانجي يخاطب الجماهير بإسم لجنة التعاون الوطني ويدعوها الى مواصلة التظاهر حتى تستقيل حكومة صالح جبر وتلغي المعاهدة على الضد من الأحزاب البرجوازية التي حاولت إقناع الجماهير بالكف عن التظاهر نزولاً عند وعد الوصي عبد الإله، وعندها أدركت الحكومة خطورة الموقف المتأزم رغم القسوة المتناهية في استعمال الرصاص وسقوط العديد من الشهداء .
اليوم الذي حسم الموقف
كان ذلك يوم 27 / 1 / 1948 حيث لم يهدأ للجماهير بال، فكانت على موعد مع هذا اليوم …
عشرات الآلاف من الطلبة والجماهير يتظاهرون، والشرطة قد عبأت قواها وتهيأت لمواجهة الجماهير الغاضبة والتي راحت تزحف من جميع أحياء بغداد باتجاه شارع الرشيد حيث المجابهات مستمرة بين المتظاهرين والشرطة رغم لعلعة الرصاص، ورئيس الوزراء صالح جبر يهدد ببيان جديد باستعمال كل الوسائل لإخماد صوت الشعب، غير أن بيانه هذا أحدث عكس الأثر المطلوب منه، فقد زاد الجماهير حماسة وتضحية واستمرت في صفوف متكاتفة ومنظمة ومتفقة على وجوب الحيلولة دون تنفيذ المعاهدة ووجوب إسقاط الوزارة، فكانت مقاومة منظمة تصور أروع صور جلال إرادة الشعب .. حيث سقط عدد من القتلى بينهم جعفر الجواهري وقيس الآلوسي وتحولت بغداد الى ساحة حرب حقيقية، ونصبت الشرطة الرشاشات فوق الأبنية العالية ومآذن الجوامع، وعندما حاول المتظاهرون عبور الجسر العتيق الذي صار يعرف بجسر الشهداء والذي نصبت على جانبيه الرشاشات على مئذنة جامع الآصفية في الرصافة ومئذنة جامع حنّان في الكرخ والتي كانت تصب رصاصها على المتظاهرين الذين يحاولون عبور الجسر وتوحيد صفوفهم فاستشهد وجرح العديد منهم ورغم ذلك واصل المتظاهرون محاولاتهم لعبور الجسر تتقدمهم إحدى الفتيات الشابات التي صارت تعرف من ذلك الحين بفتاة الجسر، حيث التقى المتظاهرون بعمال السكك القادمين من الكرخ .
في تلك الساعات حاولت الحكومة أن تقحم الجيش في الأمر فطلب صالح جبر من وزير داخليته توفيق النائب ووكيل وزير الدفاع في حينه بأن ترسل سرية مدرعات مع فوجين من المشاة على وجه السرعة لمساعدة الشرطة لإنقاذ الموقف، غير أن هذا الطلب لم يجد صدى لدى قيادة الجيش وأبدى الفريق صالح صائب الجبوري رئيس أركان الجيش آنذاك معارضته لذلك الطلب خوفاً من وقوف الجيش لصالح الجماهير .
في هذه الساعات العصيبة تتعاطف جمعية الصحفيين مع جماهير الشعب فتحتج على تعسف الحكومة، ورئيس المجلس النيابي عبد العزيز القصاب ومعه عشرون نائباً هم أعضاء الجبهة الدستورية وغيرهم يقدمون استقالاتهم من المجلس النيابي كذلك فعل بعض الوزراء، وقادة الأحزاب الوطنية، يصدرون بياناً مشتركاً ينددون فيه بالحكومة ويطالبون باستقالتها .
من خلال هذا الغليان الشعبي كان الوصي ونوري السعيد ومحمد الصدر يتداولون في ما يمكن أن يؤول إليه الوضع الملتهب، واضطر الوصي ونوري السعيد الإيعاز الى صالح جبر بتقديم إستقالته، وعلى ضوء ذلك هرب نوري السعيد وصالح جبر وتوفيق السويدي من بغداد وخرج الوصي عبد الإله على الشعب ليلاً ببيان يعلن فيه إستقالة حكومة صالح جبر ويدعوه للسكينة دون أن يشير الى المعاهدة، فقابل الشعب هذا البيان بابتهاج عظيم واستمرت الجماهير تعرب عن سرورها بإقالة الوزارة في شوارع بغداد حتى ساعة متأخرة من الليل .
لقد دخلت وثبة كانون الثاني / 1948 كواحدة من المعارك الفريدة التي خاضها الشعب في سبيل حريته وسعادته وأصبحت مثالاً يتغنى بها الشعب ويحتذيها في معاركه الوطنية اللاحقة حيث الدروس والعبر الغنية التي حرص على تطبيقها ضد الرجعية والإستعمار».
بعد هذا العرض، أسجّل هنا بعضاً من الوقائع التي أرشفت لنضال المواطنين الموصليّين، ضمن السِفرِ النضاليّ للشعب العراقي خلال تلك الحقبة الزمنيّة:
في ربيع العام 1946 تمّ فتح فرع لنقابة عمّال النسيج في الموصل، انتخب لرئاسته النقابي محمّد شيت إلياس، وفي الدورة الثانية انتخب النقابي سالم ذنون، مارست نشاطها لمدّة سنتين ثمّ أغلقت بعد أن شنَّ عليها أرباب العمل وشرطة الأمن حملات متواصلة، ولم تعاود نشاطها إلّا في العام 1958 عقب ثورة الرابع عشر من تموز.
في العام 1947 أضرب القصابون بقيادة عبدالرحمن محمّد سلطان عن العمل، ممّا شلّ الحياة في المدينة وأربك السلطات، وكان مطلبهم يتلخّص بتخفيض ضريبة الذبح، ولم ينتهِ إلّا بتلبية مطلبهم، وفي صيف نفس العام كان الغلاءُ مستفحلاً وخاصّةً افتقار الناس إلى الحنطة، ممّا أبرز مشكلة الخبز فنظّمت تظاهرة أمام باب المتصرّفيّة (المحافظة) طالبت بإقامة المخابز وتنظيم التموين فتمّت تلبية مطالب الجماهير.
في العام 1948 ساهم سوّاقُ سيّارات الأجرة مع أقرانهم في المدن الرئيسيّة، بغداد والبصرة وغيرهما، بسلسلة إضرابات، إحتجاجاً على زيادة سعر البنزين من 70 فلساً للغالون إلى 76 فلساُ، وضدّ تواتر الغرامات والرشاوى، فسدّوا الشوارعَ بسيّاراتهم، وبعد عدّة ساعات استجاب المسؤولون لبعض مطالبهم.
ولمّا كان مثل هكذا شعب، ينطوي على مثل هكذا غيضٍ من فيضِ سِفرٍ نضاليّ، في أمورٍ تدخل في صلب الحياة المدنيّة وقبل أكثرَ من سبعين عاماً، فكيف يرتضي أن تتسلّط على رقابه وفي الزمان الأحدث، حفنةٌ من عصابات الظلام والسلاح والتكفير، وقطّاع الطرق وشُذّاذ الآفاق، والذبح على الهويّة، تلك العصابات التي يمثّلها تنظيمُ (داعش) الإرهابيّ؟
يتبع
Leave a Reply