بقلم: كمال العبدلي
عام 1952 إضراب عمّال الموصل في الحقل النفطيّ
كان الوقت شتاءً والعمّال يسكنون مخيّماتٍ في الصحراء ويعملون لمدّ أنابيب النفط عبر تلك الصحراء إلى طرابلس حيث تخترق الأراضي السورية حتّى مصبِّها، وتمتد منطقة العمل مابين محطة ضخ (ت1) إلى محطة ضخ (ك 2).
كان العمّال يعيشون ظروفاً قاسية في نوع المأكل والسكن البدائيّ ويعانون من انعدام التأمين الصحّي، كما كانوا يتعرّضون باستمرار للفصل الكيفي من جرّاء تدخّل رؤساء العشائر في عملية التوظيف، وإزاء تواطؤ مسؤولي الشركة والشيوخ الذين تمرّ الأنابيب عبر الأراضي التي يهيمنون عليها، كان العمّال يفصلون باستمرار ليؤتى بدلاً منهم بعمّال آخرين، كوسيلة لحصول الشيوخ على مصادر جديدة للرشوة، ولقرب منطقة العمل من الحدود السورية كان العمّالُ الموصليّون العراقيّون على احتكاكٍ دائم بعمّال النفط السوريين وخصوصاً الواعين منهم، ممّا تسنّى لهم الإطلاع على ماكسبه إخوانُهم السوريّون بنضالهم، من حقوق كثيرة حُرموا هم منها، ونظراً لتجاهل شركة (ميل لاين) الإحتكاريّة الإنكليزيّة لمطاليبهم فقد تبلورت بينهم فكرةُ الإضراب، وشرع العمّال بتشكيل لجنة لتنظيم الإضراب وقيادته ولجنة أخرى للمفاوضات، وقد وقّتَ العمّالُ إضرابَهم مع قدوم مندوبي الشركة الذين واجههم بعض أعضاء لجنة الإضراب، وقدّموا لهم مطالبَ العمّال، ونظراً لكون الإضراب شملَ جميع المخيّمات في وقتٍ واحد، فقد رضخت الشركة إلى مطالب زيادة الأجور وإعادة المفصولين وإيقاف الفصل الكيفي وتخصيص سيارات إسعاف وتحسين الطعام وظروف العمل.
وفي العام 1956 شارك الموصليّون بكافّة فئاتهم وإثنيّاتهم، إخوانَهم العراقيّين في التظاهرات العارمة التي اجتاحت أرجاءَ العراق، احتجاجاً على العدوان الثلاثي الذي تعرّضت له الشقيقة مصر العربيّة، وسقط العديدُ منهم شهداءَ، وزُجّ بالخيّرين منهم في السجون والمعتقَلات، حتّى انتصرت إرادةُ الشعب المصري ضدّ ذلك العدوان الغاشم.
كما هبَّ أحرارُ الموصل منتظمين في تظاهراتٍ عارمة، تأييداً لثورة الرابع عشر من تمّوز عام 1958 التي حرّرت العراقَ من الأحلاف العسكريّة وخاصّةً حلف بغداد، وأخرجته من منطقة الإسترليني، وأرست قواعدَ البناء للبنى التحتيّة وأشاعت الإزدهارَ الإقتصادي، عبر خططٍ مدروسة وضَعَها التكنوقراطُ العراقيّون، حتّى غدت الطبقة المتوسّطة هي السائدة في الخطّ البياني لمنظومة البنى الإجتماعيّة، لقد كان تشريع قانون مصلحة المبايعات الحكوميّة واحداً من ثمرات تلك الثورة العظيمة، حيث حافظت على استقرار وانسيابيّة المواد الغذائيّة الأساسيّة، وصانت قوتَ الشعب من تضارب الأسعار المحلّيّة والعالميّة وحصّنته من جشع تجّارِ الحروب، تلك المصلحة العامّة التي لم تتأثّر بالهزّات الدراماتيكيّة التي ابتدعتها أجهزة سلطات النطام الدكتاتوري السرّيّة، بدءاً من أكذوبة الجواسيس وتعليق جثثهم في ساحة التحرير التي تناول تفاصيلَها الوزير السابق أحمد الحبّوبي في كتابه «ليلة الهرير في قصر النهاية»، إلى لعبة المصارعة الحرّة وفبركة الحنطة المسمومة، مروراً بتهاويل تمثيليّة (أبو طبر)، من أجل إبعادِ الأنظار عن القضيّة الفلسطينيّة، وإبقاء مرتفعات الجولان العربيّة السوريّة وسيناء العربيّة المصريّة والضفّة الغربيّة الفلسطينيّة بما في ذلك القدس الشريف، في قبضة المحتلّين الصهاينة، هنا أتحدّث كشاهد عيان في نهاية الثمانينات، يوم ساءلتُ نفسي وأنا أهمّ بشراء كيسَ السكّر (50 كغم) بمبلغ عشرة دنانير، كيف غاب إنجازُ تلك المصلحة عن أعين السلطة القمعيّة الدمويّة دون أن تطالها يدُ التخريب؟ وما هي إلّا أيّام عقب احتلال الكويت، وإذا بي أشهد انهيار تلك المصلحة وذوبانها في مهبّ الريح على أيدي تلك السلطة المأبونة، وقد تضاعف ذهولي بعد التغيير المدوّي في العام 2003 إذ كيف لم ينتبه مجلس النوّاب إليها فيعيد إحياء تشريعِها؟ أوليس ضمان خبز الشعب يرتقي إلى مصافّ المقدّسات؟ أم أنّ ذلك قد تحصّل من الخللِ المريب في إقصاء وانعدام حسِّ المواطَنَة لصالحِ المحاصصة التي لا طائلَ منها سوى طمس الوجه المشرق لعراق الحضارات؟
وعوداً إلى مآثر الموصليّين فإنّ ذلك السِفرَ المشرق في تأريخهم المجيد، وما انطوت عليه حياتُهم الإجتماعيّة من المثُلِ السامية والحضاريّة التي تجسّدت في تآلفِ الإثنيّات وبكافّة الأديان والمذاهب والقوميّات والإنحدارات الفكريّة، والتقاليد الإنسانيّة المشروعة في شراكة المحافظة على حرمات الأعراض وحرمات المنازل ومراكز العبادة سواءً الجوامع والمساجد والكنائس واللالش والمندائيّات والحسينيّات، لا يصعب بل يستحيل عليهم الرضوخ لسلطةِ حفنة طفيليّة من المغامرين وقطّاع الطرق ذوي الفكر السلفيّ المريب، الذين لا رابط لهم بالإسلام دين التسامح والسلام، أو بأيّ خيطٍ من خيوط التحضّر والإنسانيّة، فضلاً عن مقوّمات الحياة المدنيّة وما تنطوي عليه من منظومة الأفكار التنويريّة والديمقراطيّة وحقوق المرأة وثقافة حقوق الإنسان وإشاعة روح التآلف والمحبّة والسلام بين الناس جميع الناس، دون تمييزٍ أو تفاضلٍ أو تمايزٍ أو امتياز، أو يرتضون للفتاة العراقيّة الموصليّة الطاهرة أن تُجرَّ إلى مواخير البغاء تحت ذريعة البدعة السمجة اللأخلاقيّة واللادينيّة واللاإنسانيّة المسمّاة (جهاد النكاح) سيّئة الصيت وقاتلة المرأة قبل قتل كرامتها؟ وإهدار عفافِها وثلم شرفِها؟ فالموتُ أهون من مرأى بناتنا تحت عربدة ونزوات وشهوات الداعشيّين الحيوانيّة.
Leave a Reply