تكرّرت مقولةٌ في السنوات العشر الماضية مفادها أنّ ما قامت به الولايات المتحدة من حربين في العراق وأفغانستان قد أدّت نتائجهما إلى غير الصالح الأميركي، بل استفادت إيران، خصم الولايات المتحدة في المنطقة، من هذه النتائج. وهذا الأمر، إن دلّ على شيء، فإنما يؤكد أنّ الخطايا في السياسات الكبرى تخدم الأعداء والخصوم، رغم تعارض ذلك مع المقصود عند وضع هذه السياسات.
هكذا هو حال بعض العرب والمسلمين الآن حيث يخدمون عدوهم الأول في المنطقة، إسرائيل، من خلال ما يقومون به من سياسات وممارسات تصبّ نتائجها كلّها لصالح الغايات والأجندات الإسرائيلية.
فالتطورات الحاصلة في المنطقة، تحمل طابع المصالح والمنافع الإسرائيلية فقط، بينما «الآخرون» يتضرّرون ممّا في هذه التطورات من مخاطر أمنيّة وسياسية على مجتمعاتهم وأوطانهم وعلى مصالحهم المشتركة. فالانقسامات الطائفية والمذهبية تزداد في المنطقة وفي دول العالم الإسلامي، وأصوات العداء بين «الشرق الإسلامي» وبين «الغرب المسيحي» ترتفع حدّةً أيضاً!.
نجد الآن على الساحتين العربية والإسلامية، «إسرائيليّات» فاعلة بكثافة. ونجد عرباً ومسلمين يقومون بخوض «معارك إسرائيليّة» تحت رايات الديمقراطية أو الدين أو الطائفة، وهم عمليّاً يحقّقون ما يندرج في خانة «المشاريع الإسرائيليّة» للمنطقة، من سعيٍ لتقسيم طائفي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة لصالح فئات تستفيد من فتات الأوطان فتقيم جزر ممالكها الفئويّة الخاصّة ولو على بحرٍ من الدّماء. أليس هو مشروعٌ إسرائيلي منذ منتصف القرن الماضي لتفتيت المنطقة العربيّة إلى دويلات متناحرة؟ أوليست هي مصلحة إسرائيليّة كاملة نتاج ما جرى في العراق من تفكيك لوحدته الوطنية، وفي السودان من تقسيم لكيانه الوطني الواحد؟ أليست هي أيضاً مصالح إسرائيليّة نتاج ما حدث في الحرب الأهلية اللبنانية وما يحدث الآن في سوريا؟! وماذا عمّن يقيمون «دويلات وإمارات إسلامية» هنا وهناك، وعن الفوضى التي تحدث الآن في ليبيا واليمن وتونس؟ وعن ما حدث من دعم أميركي وغربي لحركات سياسية دينية من أجل وصولها إلى الحكم في أكثر من بلد عربي، ثم عن تورّط هذه الحركات في أعمال عنف وإرهاب داخلي كالذي يحدث الآن في مصر!؟، ثمّ ماذا عن ظاهرة العنف المسلح أصلاً باسم الدين الإسلامي والتي استباحت كل المحرّمات الدينية والإنسانية في أفكارها وممارساتها في مشارق الأرض ومغاربها!؟.
وهكذا تمتزج الآن على الأرض العربية مشاريع تدويل أزمات داخلية عربية مع مخاطر تقسيم مجتمعات عربية، وسط صراعات شديدة بين قوى دولية وإقليمية على مستقبل هذه المنطقة وموقعها وثرواتها، مع استمرار الجرح الفلسطيني النازف في قلب هذه الأمّة حيث ممر ومستقرّ المشروع الصهيوني الشغّال منذ مئة عام.
وقد قيل بعد حرب أكتوبر عام 1973، وعقب توقيع المعاهدة المصرية-الإسرائيلية، إنّ «لا حرباً من دون مصر ولا سلاماً من دون سوريا». وقد ثبت بعد أربعة عقودٍ مرّت على هذا القول، صحّة خلاصته حيث لم تحدث منذ ذاك الوقت حربٌ نظامية عربية-إسرائيلية، بمعنى حرب جيوش تقليدية على الجبهات، رغم حدوث حروبٍ عديدة قامت بها إسرائيل خلال هذه العقود ضدّ حركات المقاومة في لبنان وفلسطين. أيضاً، لم تحدث تسوية شاملة للصراع العربي-الإسرائيلي ولا معاهدات «سلام» على الجبهتين السورية واللبنانية كالتي جرت بين إسرائيل وكلٍ من مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.
تداعياتٌ سلبية خطيرة حدثت في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي في العقود الماضية منذ بدء عصر «معاهدات السلام» وخروج مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي، كان منها إمّا ما هو بفعل إراداتٍ وظروفٍ محلية أو بسبب تخطيطٍ وعدوانٍ خارجي، أو مزيجٌ من الحالتين معاً. فمن الحرب العراقية-الإيرانية في العام 1980، إلى الغزو الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت في العام 1982، إلى غزو صدام حسين لدولة الكويت في صيف العام 1990، إلى حرب الخليج الثانية في العام 1991، إلى مؤتمر مدريد وتوقيع اتفاقية «أوسلو» بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، إلى هجمات سبتمبر في الولايات المتحدة عام 2001، إلى غزو العراق في العام 2003، إلى الحروب الإسرائيلية على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة في أكثر من محطة زمنية خلال العقد الماضي، إلى ما تشهده المنطقة الآن من صراعاتٍ وأزمات أمنية وسياسية تُنذر بحروبٍ أهلية وبتغييراتٍ في كيانات بعض الدول وحدودها، وليس فقط أنظمتها الحاكمة.
ولم تكن هذه التداعيات السلبية في التاريخ العربي المعاصر منفصلةً إطلاقاً عن مجرى الصراع العربي-الصهيوني الممتد لحوالي مئة عام، ولا هي أيضاً مجرّد تفاعلات داخلية، «الخارج» منها براء. فهكذا هو حال المنطقة المترابطة أحداثها رغم تباين الأمكنة والأزمنة، وهكذا هو الواقع الآن رغم ما نشهد فيه من طغيان للصراعات الداخلية أو ما تحاوله حكومة نتنياهو من جعل الصراع مع إيران «أولوية» عربية وإقليمية ودولية.
أليست خدمة المصالح الإسرائيلية هي محصلة الواقع السائد الآن في عموم أزمات المنطقة وحروبها الأهلية الداخلية؟!
أليس أساس المشكلة على الصعيد الفلسطيني هو إخراج الصراع العربي-الإسرائيلي من دائرته العربية الشاملة وجعله الآن قضية «مسار فلسطيني-إسرائيلي» متعثّر «التفاوض» بشأنه ويحتاج إلى «تنشيط»؟!
ثمّ متى كانت القدس قضيّةً خاصّةً فقط بالفريق الفلسطيني المفاوض بينما هي مدينة مقدّسة معنيٌّ بها وبمستقبلها، في ظلّ محاولات تهويدها لأكثر من أربعين عاماً، عموم المسلمين والمسيحيين في العالم؟!
أليس تسليح بعض الجماعات الدينية المتطرفة ودعمها مالياً وإعلامياً هو فائدة إسرائيلية كبيرة حيث تشترط إسرائيل الآن على الفلسطينيين الاعتراف بها كدولة «يهودية»، وهذا يتطلّب حتماً وجود دويلات أخرى في المنطقة على أسس دينية وطائفية؟!.
أليس تهميش الصراع مع إسرائيل ومنع المقاومة المسلّحة ضدّها هو مصلحة إسرائيلية بينما يتمّ إصدار الفتاوى للتحريض على القتال ولاستخدام العنف في صراعاتٍ عربية داخلية؟!.
ثمّ كم هو محزنٌ هذا المشهد الدولي الذي تجتمع فيه إسرائيل مع أطراف عربية وإسلامية ضدّ مشاريع تسويات سياسية للحرب الدامية في سوريا وبخصوص قضية الملف النووي الإيراني، بينما شجّعت هذه الأطراف الفلسطينيين على وقف كافّة أشكال المقاومة المسلحة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وعلى اعتماد المفاوضات كأسلوبٍ وحيد لنيل حقوقهم المغتصبة منذ ستّة عقود؟!.
كم هو مؤسفٌ ومذلٌّ أيضاً رؤية «اللوبي الإسرائيلي» يتحرّك في واشنطن مع كل أعضاء الكونغرس لمنع حدوث اتفاق دولي مع إيران حول ملفها النووي، تماماً كما فعل هذا «اللوبي» سابقاً للتحريض على ضربات عسكرية أميركية ضدّ سوريا، بينما تنشغل بعض حكومات الدول العربية والإسلامية بنفسها أو يدعم بعضها الآخر نشاط «اللوبي الإسرائيلي»!.
سيأتي يومٌ يُقال فيه عن الصراع العربي-الصهيوني الممتد منذ مطلع القرن العشرين، إنّ العرب كانوا فيه قسمين: قِسمٌ مقاومٌ للمشروع الصهيوني، وقِسمٌ آخر خادمٌ له، عن قصدٍ أو دون قصد، وبأنّه لم يكن للعرب خيارٌ ثالثٌ غيرهما. لذلك، السؤال الهام أمام كل العرب الآن: أين موقع أي شخص أو جماعة أو حكومة من هذين القِسمين؟.
Leave a Reply