مريم شهاب
كان لا خيار له في أن يستمر في حب الحياة والناس وجمال الأشياء من حوله وأن يتوسم الخير وحسن النية في الآخرين حتى ولو تألم من جراء التصرفات القاسية من جانب البعض. وأيضاً كان لا خيار له في أن يستمر في الثقة بنفسه وبجدارته بالسعادة وحقه العادل فيها حتى وإن تأخَّر ضياء الفجر في التسلل عبر نافذته المغلقة. فالبديل الوحيد لذلك هو أن يستسلم للاكتئاب والحزن والنظرة السوداوية للحياة والأشياء فتزداد معاناته في الحياة.
إنه رضا. الشاب الطموح المكافح. لم يحب الأرقام يوماً، وخلافاً لرغبة أهله، ترك المدرسة.
اشتغل بجد وتحقَّق حلمه بأن يصبح «كوافيراً» وصاحب صالون حلاقة مشهور جداً. جرَّحته الحياة وأثقلته هموم صحته بعد إصابته بمرض السرطان. سيطر عليه إحساس بأنه إنسان محروم من كل شيء في الدنيا، محرومٌ من السعادة ومن الزواج والصحة. وراح ينتظر قضاء الله في أية لحظة مستسلماً لإرادة القدر.
في مستشفى «كرمانوس» لعلاج السرطان في ديترويت، لفتت نظره صبيَّة بملابسها المتهدلة. ورغم علاجات سرطان الثدي المتكررة لا زالت تحتفظ بمسحة جمال بريء وصبر وإيمان. نغمات صوتها الحزين وكلماتها الطيبة، بدّدت الغلالة الكئيبة التي كانت تحيط به، ولقاءاته المتكررة بها، خفَّفت عنه الأوجاع، وجعلته يرتفع فوق الآلام والتماس التعويض والعزاء في الأشياء والمعاني الجميلة الأخرى التي تزخر بها الحياة رغم مشقَّاتها، وأثقلها المرض.
كان القدر رحيماً بالفتاة. وفي آخر جلسة مع الطبيب، أخبرت رضا أنه تتمنى له الشفاء من المرض الخبيث مثلها، وإنها لن تنساه في صلواتها ودعائها. هو كان يعلم في قرارة نفسه أن القدر أقوى من التمنِّي.
سألها: متى الزواج وحفل الزفاف؟ كانت الفتاة مخطوبة لشاب مكافح وطيب لم يتركها طوال فترة العلاج. فأجابته: سوف ننتظر سنة لتوفير المال لإجراء عملية تركيب صدر صناعي لي ويكون حلَّاً لمشكلة ملابسي المتهدلة كما ترى! ابتسمت له بحنان وقالت: شو رأيك؟ أمنية بسيطة؟
كان يعلم أن أمله بالشفاء ضئيل جداً. الآلام والأوجاع رققت مشاعره، ودفعته لأن يحاول قدر ما يستطيع تجنيب الآخرين معاناة المرض والتخفيف عنهم بما بين يديه من مال أو كلام طيب. وهذا ما فعله.
اتَّصل رضا بالفتاة وأخبرها بعرضٍ نبيل من جراح تجميل كبير يعرض عليها حلاً لمشكلة ملابسها المتهدلة فوق صدرها، وسوف يعيد لها شكله الطبيعي ومؤكداً لها تنازل الطبيب عن أجره وعن أجر أخصائي التخدير ومساهمته في ثمن الصدر الصناعي، ويتولى تركيبه بنجاح تكراراً لمئات الجراحات من هذا النوع.
بعد شفائها من العملية، أصرَّ رضا أن يشارك العروس المؤمنة الصابرة فرحة زفافها مع خطيبها، فخرجت من تحت «يدي الكوافير الشاطر رضا»، كما يحب أن يقول عن نفسه، كأجمل عروس في فستان زفافها التي أهداها إياه، وأصرَّ على أن يزُّفها مع عريسها الشاب الأمين بسيارته إلى قاعة الفرح هنا في ديربورن.
تلك الليلة شعر رضا بطعم السعادة التي نسي مذاقها منذ مدَّة بعيدة.
أقول لك أيها القارئ الكريم، لا زالت ديربورن بخير وفيها أناس عديدون خيِّرون يعملون بصمت، ورغم الألم والحزن قادرون على العطاء.
Leave a Reply