ذكرني مشهد الإقطاعي وليد جنبلاط وهو يقلِّد الزعامة لإبنه غير المهيأ لها ولا المؤهَّل ولا الكفوء، بفيلم «العرَّاب» الشهير عندما نصَّب الأبن المتردد، مايكل كورليوني، نفسه مضطراً زعيماً للعائلة المافيويَّة الدموية مكان والده الذي كان حياً يُرزق. والفرق أنَّ وليد جنبلاط (كورليوني)، «البيك الاشتراكي» المذهبي، فرغ صبره من تعلُّم تيمور البطيء لمقاليد الزعامة وإظهار عدم اهتمام وتحمُّس وتعطّش للمسؤولية فقام بفرضها عليه فرضاً في مشهد سوريالي ومنفر وبكلمات جوفاء هي أبعد ما تكون عن ممارسته السياسية، وبوصايا خشبية كاذبة يمجُّها حتى ميشال سليمان نفسه! فبماذا تميَّز تيمور وليد جنبلاط لكي يطوّبه والده زعيماً من بعده على الدروز، عدا عن حقيقة كونه وُلد في وطن الخردة والتوريث السياسي وفي فمه ملعقة من ذهب وفي خزائن والده مليارات الدولارات التي لم يرثها عن والده كمال جنبلاط، ولم يختبر معاناة العوائل الفقيرة المعدومة المسلوبة الحقوق في سلسلة الرتب والرواتب.
المهم أصبح تيمور (من يسمِّي ابنه تيمُّناً بتيمورلنك!) زعيماً للدروز في الذكرى الأربعين لإغتيال كمال جنبلاط، والتي أرادها وليد جنبلاط مناسبة لعرض عضلاته في وجه العهد الجديد وإلاَّ لمَا تذكَّر والده بعد أربعة عقود بالتمام والكمال وهو الذي شكَّل النقيض له في السياسة والمبادىء منذ توريثه رئاسة «الحركة الوطنية» البائدة. سبب هذا التناقض والتضاد بين كمال ووليد يفترض وجود نظريتان فقط لا ثالث لهما، أما لأن وليد كان يكره كمالاً ويبغض أفكاره التقدمية بالسر أو أنّٓ كمال جنبلاط كان وليداً متخفِّياً!
ولم يشأ وليد جنبلاط إحياء ذكرى أبيه إلا وإلى جانبه أعداء الأمس الذين كان يمقتهم ويحاربهم، فاكتملت الذكرى بوجود جورج عدوان قائد ميليشيا «التنظيم» اليميني العنصري المتطرف إبان الحرب الأهلية، هذا اليمين الذي وصفه وليد يوماً بالجنس العاطل. ورمى عدوان وردة على الضريح متلفتاً حوله ومنتظراً الشكر العميق من قبل مضيفيه. كذلك حضر مندوب عن «حزب الله» الذي وصف وليد سلاح مقاومته يوماً بسلاح الغدر عندما كان الرئيس الفعلي المتحمّس لـ«ثورة القرنبيط» ولقرطة حنيكر في 14 آذار المنحلَّة، وإنْ ننسى فلا ننسى اتِّهام جنبلاط لحزب الله بأنه حزب شمولي على أساس أنَّ حزبه «التقدمي الاشتراكي» يؤمن بتداول السلطة والشفافية والديمقراطية الحزبية بدليل توريث تيمور، مثله مثل تيَّار «المستقبل» و«القوات» التقدميين.
لكن كل هذا لم يكن بالياً أكثر من اعتناق وليد للكوفية الفلسطينية بدل فولار «ثورة الأرز» المزعومة ومخاطبة «العرَّاب الجديد» بالقول «إرفع رأسك عالياً يا تيمور واحمل راية فلسطين العربية المحتلَّة»، ولا تنسى يا تيمور صديق والدك فيلتمان والمحافظين الجدد لبوش أحباء فلسطين، ولا تمنع زيارة زعيم للعدو كشمعون بيريز إلى المختارة والتنسيق مع الاحتلال يا تيمور ثم قبِّل اليد التي أحسنت إليك وادعُ عليها بالكسر يا تيمور كما لا تنسى أنّْ تغيِّر جلدك عدة مرَّاتٍ وحسب الظروف!
وبينما كان جنبلاط مشغولاً بحفلة التنكر والتكاذب، كانت العائلات اللبنانية المستورة تملأ ساحة رياض الصلح للاحتجاج على زيادة الضرائب التي بحثها نوَّاب الأُمَّة الأبرار. والمهزلة الكبرى أنَّ وحش المال جنبلاط نفسه أرسل «تقدُّمييه» للتظاهرة الشعبية كما شارك حزب «الكتائب» بعد أن نصَّبه وطن النصب بطلاً مطلبياً بينما تاريخ حزبه معروف في قمع المطالب الشعبية المحقَّة، وهكذا وبلحظة تحوَّل سامي الجميِّل الوريث الإقطاعي إلى قائد مطلبي يساري الهوى مع أنَّ معلومة وردت على «السوشال ميديا» بيَّنَت أنَّ رواتب بني الجميِّل، الأحياء منهم والأموات، تعادل ضعفي سلسلة الرتب والرواتب أي 2 ونصف مليار ليرة، هذه السلسلة التي يحرِّمها النوَّاب على الموظفين.
لكن كل هذا ضئيل أمام قرار مشاركة سعد الحريري بالتظاهرة على أساس أنَّ شعبيته لم تُمَس فتعهد بمحاربة الفساد بينما لم يدفع لموظفيه حقوقهم منذ سنة، فصُعق عندما ووجه بعبوات المياه وثارت ثائرة بقايا تيَّاره لكرامته لكن هؤلاء هانت عليهم كرامة الموظفين الذين شرَّدهم الحريري بالطرقات والشعب الذي أفقره السنيورة، كما هانت عليهم كرامة المفتي قبَّاني التي استُبيحت من قبل المستقبليين في جامع الخاشقجي. أمَّا أنكى رد فعل فجاء من سمير جعجع الذي قال إنَّ رشق رئيس الحكومة في ساحة رياض الصلح تطاول على الرئاسة الثالثة، وهي بعرفه جريمة لا تُغتَفَر أمَّا رشق الشهيد رشيد كرامي بالرصاص ففيها وجهة نظر وربَّما جريمة لا تُعتَبَر!
ولكن رغم كل هذا الحراك المدني فالذي يجرِّب المجرَّب عقله مخرَّب فإذا صدَّق النَّاس النوَّاب الذين زادوا رواتبهم خلسة وأقروا ضرائب باهظة عليهم ثم أعادوا انتخابهم، فهم يستحقون بعضهم بعضاً. وهذا البلد غير مبتلٍ بلصوص السياسة فقط بل بالتجار المجرمين الذين بمجرد ان شمّوا رائحة ضرائب لم تُقَّر بعد، رفعوا أسعار السلع في الحمراء وغيرها.
لقد أحسن الوزير السابق الوطني شربل نحاس عندما لخص الموقف كله بالقول «عندنا وفرة بالمال ووفرة بالحرامية»!
Leave a Reply