قادة الكيان الصهيوني نادمون لا ن المقاومة ضاعفت قوتها التي ظهرت في حرب تموز
في 17 أيار من العام 1999، قرر رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك أيهود باراك، الانسحاب من لبنان، وهذا اليوم (17 آيار) يذّكر اللبنانيين بالاتفاق المشؤوم الذي أنجزه لبنان الرسمي مع العدو الاسرائيلي برئاسة أمين الجميل، الذي انتخب رئيساً للجمهورية في ظل الاحتلال الاسرائيلي، وقبله شقيقه بشير الجميل قبل ان يُغتال، وكان الهدف من وصول حزبهما “الكتائب” الى السلطة، هو توقيع معاهدة صلح مع اسرائيل، بعد ان سبق للنظام المصري برئاسة أنور السادات ان عقد اتفاق سلام مع العدو الاسرائيلي (كامب دايفيد)، وقد اغتيل فيما بعد بيد جندي مصري.
كان الاجتياح الاسرائيلي الثاني الى لبنان في حزيران من العام 1982 العبور الى ان يكون الدولة الثانية التي تنضم الى الدول العربية، لإبرام “السلام” مع اسرائيل، إلا ان اللبنانيين الوطنيين، كانوا جاهزين لرفض ذلك والتصدي لإفرازات الغزو الصهيوني السياسية، بضربه عسكرياً، فبدأت عمليات المقاومة ضده، قبل ان يستكمل اجتياحه، حيث فاجأته بسلسلة منها، كان أبرزها، اغتيال بشير الجميل، وهو رمز السلطة التي كانت ستوقع “السلام” مع اسرائيل، التي سهّلت له الطريق، بإخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من الجنوب وبيروت، وفرض انسحاب للقوات السورية أيضا، التي تصدت للتقدم الاسرائيلي على أكثر من محور، ومنعت وصوله الى الطريق الدولية، بين المدريج والمصنع، للدفاع عن دمشق ومنع القوات الغازية من الوصول اليها.
أسقطت المقاومة التي بدأت سريعة، نظرية “سلامة الجليل” وهي على هذا الأسم حصل اجتياح لبنان، لمنع سقوط صواريخ “الكاتيوشا” لكن المقاومة لم توقف إرسال صواريخها إلى المستوطنات، كما لم يتمكن العدو من ان يقيم نظاماً سياسياً موالياً له، فحصلت عملية تفجير بيت الكتائب في الاشرفية، الذي كان الجميل متواجداً فيه، والقي القبض على الفاعل، فتبين ان اسمه حبيب الشرتوني وينتمي الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وفي التحقيق معه، نسب عمله الى المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي وعملائه، واسقط ما تردد ان اسرائيل اغتالته، لانه اختلف مع رئيس حكومتها مناحيم بيغن، وهذا لم يكن صحيحاً، لان وزير الدفاع آنذاك ارييل شارون حضر الى بكفيا معزياً، وأكمل أمين الجميل نهج شقيقه بعد انتخابه رئيسا للجمهورية ، وواصل التفاوض مع العدو الاسرائيلي، ووصل معه الى اتفاق سمي اتفاق 17 أيار، الذي أسقطه الوطنيون اللبنانيون بدعم من سوريا، بعد اقل من عام على التوقيع عليه، ومعه انتهت مفاعيل الاجتياح السياسية، وحوصر الجميل في قصر بعبدا، وسقط الحكم الكتائبي الفئوي، بعدان فرضت المقاومة انسحاب قوات الاحتلال من العاصمة والجبل.
هذا كان في العامين الأولين للاجتياح، حيث بدلت عمليات المقاومة، وصمود القوى الوطنية وسوريا، وجه مشروع الرئيس الاميركي رونالد ريغان آنذاك، بتحريض الدول العربية على توقيع سلام مع اسرائيل، وانقلبت المعادلات الداخلية في لبنان، وبدأت تميل لصالح “جبهة الخلاص الوطني” التي تمكنت من ان تفرض حكومة وحدة وطنية برئاسة رشيد كرامي، ودخلت الى الحكومة قوى وطنية، بعد ان تم تمزيق اتفاق 17 أيار، وإلغاؤه في مجلس النواب، وبدأ المشهد السياسي يتغير لصالح خط المقاومة التي دعمتها سوريا بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكانت ذروة الدعم في تبني العمليات الاستشهادية والنوعية، التي عجلت في إخراج قوات الاحتلال من أجزاء كبيرة من الجنوب، في العام 1985، وباتت محصورة في “الشريط الحدودي المحتل” الذي امتد الى جزين عبر ميليشيا لحد.
مع سقوط اتفاق 17 أيار، ظهرت الى جانب المقاومة الوطنية اللبنانية، “المقاومة الإسلامية” وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي، أعلن عن تأسيس “حزب الله” الذي وقعت عليه، أكثر العمليات وكانت الذروة مع مطلع التسعينات، إذ بات يحتل المساحة الأكبر من عمليات المقاومة، الى جانب أحزاب وطنية (القومي والشيوعي) وقد تراجع دورهما فيما بعد، لا بل تقلص لاسباب ذاتية وسياسية، وهو ما ترك “المقاومة الاسلامية” في المواجهة، وقد توفر لها قيادة واعية وحكيمة، حضرت في الميدان مع المقاتلين ووجهت السلاح نحو العدو فقط وخرجت من المستنقع الداخلي اللبناني، الذي كان يراد لها ان تقع فيه، وما زالت المحاولات جارية حتى الان، كما ابتعدت عن الانخراط في السلطة التنفيذية (الحكومة) وشاركت في الانتخابات النيابية فقط، لتؤكد احتضان المواطنين لها، سواء في بيئتها الجنوبية أو البقاعية، أو في نسج تحالفاتها السياسية، فأمنت شبه إجماع شعبي لبناني حولها، ونجحت في التنسيق والتعاون والتناغم والتكامل مع الجيش اللبناني، فحمت ظهرها، وهذا ما ساهم في تحقيق الانتصار العسكري على الجيش الاسرائيلي وعملائه من “جيش لبنان الجنوبي” وقد أعطى رافعة لكل ذلك، هي الأرضية السياسية الصلبة التي تمثلت في الحكومات المتعاقبة بعد اتفاق الطائف برعاية سوريا، من ان تشكل الحاضن السياسي للمقاومة، ورفض المساومة عليها، أو نزع سلاحها، أو إرسال الجيش الى الجنوب ليكون مكانها، وكان المقصود حصول مواجهة بينهما، لم يقبل بها قائد الجيش آنذاك العماد اميل لحود وهو لم يقبل بذلك فيما بعد في رئاسة الجمهورية، ان ينسق مع العدو الاسرائيلي في خروج قواته، التي كانت تتعرض لأكثر من عمليتين في اليوم، حيث تصاعدت بعد العام 1996، عندما أمّنت المقاومة في تفاهم نيسان الذي أعقب العدوان الاسرائيلي، في ذلك العام، حماية المدنيين من القصف الاسرائيلي وتفرغت لملاحقة جنود العدو، وعملائه في مواقعهم العسكرية وأثناء دورياتهم، ووصلت الى قادة العملاء في منازلهم، فقتلت عقل هاشم، وجرحت قائدهم انطوان لحد في منزله في عملية نفذتها سهى بشارة.
هذه الصورة كانت عشية الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، حيث لم تعد قوات الاحتلال بقادرة على حماية جنودها وضباطها، ولا على تامين البقاء لعملائها الذين بدأوا يفرون من “جيش لبنان الجنوبي” وهو ما لم يكن قادة العدو يحسبون له حساباً، عند البحث في الخروج من الجنوب، ومن ان يؤمنوا لهم ما يثبت وجودهم في تلك المنطقة بعد الانسحاب كما لم يتمكنوا من إدخال هؤلاء العناصر في الجيش اللبناني، ويشكلوا لواء منه، يبقى في الجنوب، حيث جوبه هذا الطرح الاسرائيلي برفض لبناني رسمي وشعبي، إقامة “حرس حدود” لإسرائيل كما لم يتم التنسيق الأمم المتحدة ومجلس الأمن مع مطلب باراك ان يكون الانسحاب تطبيقاً للقرار 425 الذي كان صدر قبل 22 عاماً.
لكل هذه التطورات رأى باراك ومعه رئيس الأركان في الجيش الاسرائيلي شاوول موفاز، وقائد الجبهة الشمالية مع لبنان غابي اشكنازي، انه لم يعد أمامهم سوى الانسحاب الأحادي، غير عابئين بما سيحل بميليشيا لحد الذي استمهلهم ان لا ينسحبوا، لكن رئيس الحكومة الإسرائيلية وقادة الجيش، لم يعد أمامهم من خيار، في ظل تصاعد حركة “الأمهات الأربع” الذين نفذوا اعتصامات أمام مقرات ومنازل المسؤولين الإسرائيليين يطالبون، بإنقاذ حياة أبنائهم في جنوب لبنان، إذ كان يسقط ما بين 25 و30 منهم سنوياً، وقد كبرت كرة الثلج المطالبة بالخروج من لبنان، لان اجتياحه لم يحقق أهدافه لا السياسية بتوقيع معاهدة سلام، ولا بحماية المستوطنات، التي كانت تحت مرمى صواريخ المقاومة، مما يعني ان عملية “سلامة الجليل” التي قضت بإبعاد منظمة التحرير وصواريخها، قد فشلت، لان اللبنانيين اخذوا على عاتقهم تحرير أراضيهم وحماية وطنهم، وباتوا يشكلون خطراً أكثر واكبر على امن اسرائيل ومستوطنيها.
وهكذا دب الخلاف داخل اسرائيل، فمن طالب بالانسحاب مع معاهدة واتفاق مع لبنان، ومن دعا الى تسليم الجيش اللبناني الأماكن التي ينسحب منها الجيش الاسرائيلي على ان يقوم بتطهيرها من المسلحين، إلا ان تصاعد عمليات المقاومة في العام الذي سبق الانسحاب فرض الهروب الاسرائيلي من لبنان دون قيد أو شرط، وهذه هي المرة الأولى التي تخرج اسرائيل من ارض عربية محتلة بالمقاومة، وهو ما شجع الشعب الفلسطيني ان يقوم بانتفاضة في العام 2000، متأثراً بما جرى في لبنان، إذ اثبتت له المفاوضات واتفاق أوسلو أنها لم تحرر الارض، إذ بقي الاحتلال جاثماً فوقها، وكان ما تحقق هو قيام سلطة تدير شؤون المواطنين البلدية والخدماتية.
وهكذا كان النصر في 25 أيار، والذي لم تتوقف المقاومة عنده، وتنسحب من الميدان، بل أكملت استعداداتها وجهوزيتها، لأنها تدرك الأطماع الصهيونية، وتعرف جيداً الغدر الاسرائيلي، وانه في يوم من الأيام، سيقوم العدو برد الاعتبار لجيشه الذي هزم في لبنان، وبدأت الأصوات ترتفع داخل الدولة العبرية، تحذر من تنامي قوة “حزب الله” وقد اعترف بعض قادة العدو، بان المقاومة باتت أقوى مما كانت عليه أثناء الهروب من لبنان، وبدأت التسريبات الإسرائيلية عن امتلاك المقاومة 14 ألف صاروخ، ولا بد من التخلص من هذه القوة التي تقض مضاجع الإسرائيليين، فكانت الحملة على المقاومة من أصوات لبنانية بدأت منذ العام 2000، وبعد أشهر على الفرار الاسرائيلي منه تطرح مقولة “هانوي أم هونغ كونغ” وتسأل عن مدى فائدة وجود السلاح، بعد انتفاء سبب وجوده مع خروج القوات الإسرائيلية، وترافق طرح موضوع سلاح المقاومة ووجودها، مع حملة أيضا على الوجود العسكري والأمني السوري، الذي كان يربط بالاحتلال الاسرائيلي، وقد زادت حدة المطالبة بالانسحاب السوري مع تحريك الولايات المتحدة، لأحزاب وشخصيات ومراجع روحية لا سيما بعد نداء المطارنة الموارنة بالدعوة لسحب سورية جيشها، بدأت تتطلع نحوها، لا سيما بعد احتلالها للعراق، لإخراج القوات السورية من لبنان، حيث سيكون لذلك تأثير على وجود المقاومة وبقاء سلاحها، وكانت النظرية الاميركية – الإسرائيلية، التي لاقت صدى من بعض الفئات اللبنانية (قوى 14 آذار فيما بعد) بان الانسحاب السوري سيؤدي فوراً الى إضعاف “حزب الله” وتسليم سلاحه، إذا ما تم الضغط على القيادة السورية وقف تزويده بالسلاح، وفك ارتباطه به وبإيران، وكان هذا العرض الاميركي، هو بقاء سوريا في لبنان، مقابل نزع سلاح المقاومة منه، ووقف الدعم لحركات المقاومة في فلسطين والعراق، لكن الرئيس بشار الاسد تمسك بالمقاومة.
لم يؤد الخروج السوري، الذي كان القرار 1559 تحدث عنه، الى تمكين القوى اللبنانية المؤيدة للمشروع الاميركي من نزع سلاح المقاومة، الذي ربطته بالحوار، لكن اسرائيل ومعها أميركا كانتا مستعجلتين، فقررا شن حرب على لبنان في صيف 2006 تبين من خلال وقائعها التي دامت 33 يوماً ان المقاومة امتلكت قوة صاروخية وقدرة قتالية، فاجأت الجيش الاسرائيلي الذي مني بهزيمة حيث لم يتمكن من عبور عيتا الشعب وبنت جبيل ومارون الراس والخيام ومرجعيون وغيرها من البلدات الجنوبية المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة، وفشل العدوان في تحقيق أهدافه الإسرائيلية بتدمير المقاومة وترسانتها الصاروخية وإرادة القتال عندها، والأميركية بتحقيق “الشرق الاوسط الكبير” وعلى المستوى اللبناني سقط الفريق السياسي من “14 آذار” المتحالف مع المشروع الاميركي واعترف النائب وليد جنبلاط بانتصار المقاومة عسكرياً على اسرائيل، وقد استكملته سياسياً في اتفاق الدوحة بعد انتفاضة 7 أيار 2008 التي أعادت التوازن الى السلطة، وإنهاء زمن الاستئثار بالحكم من قبل قوى “14 آذار”، لا بل تمت خلخلة هذه القوى بخروج جنبلاط منها، وفتح سعد الحريري علاقة مع سوريا، التي زارها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وأعلن تموضعه معها سياسياً ووصفه الى جانب المقاومة.
ان الانتصار الذي تحقق في التحرير قبل عقد من الزمن عسكرياً بطرد الجيش الاسرائيلي والذي حاول تكرار مغامرة احتلال لبنان من جديد، عام 2006 وفشل، فان تهديد العدو بالحرب من جديد محاولة فاشلة، لان المقاومة استعدت لكل شيء، ولقد استعرض السيد حسن نصرالله، بعض مكامن القوة عند المقاومة، التي ستغير مجرى التاريخ، وان زوال اسرائيل ليس حلماً بل واقعاً بدأ اليهود يتلمسونه، وإذ بمثقفيهم ونخبة المفكرين عندهم يتحدثون عن خطر الوجود الذي يهدد الكيان الصهيوني ولم يكن يشعر به، قبل الانتصارات التي تحققت منذ ان وطأت قدم جندي إسرائيلي ارض لبنان، في العام 1978 و 1982، الى ان طرد منه في 2000 و 2006 وان المحاولة الثالثة قد تكون بطرده من فلسطين، من يدري طالما القوة هي القول الفصل في تحقيق مصير الشعوب وتحررها.
Leave a Reply