المفترق الصعب
«المتغطّي بالأميركان عريان»…
هي العبارة الشهيرة التي نقلها الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، بعد خروجه من وزارة الخارجية، عن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في بداية ما بات يعرف بـ«الربيع العربي» تنطبق اليوم أكثر من أي وقت مضى على ما بات يصطلح على تسميته بـ«الربيع الكردي».
ضوء أصفر
بطريقة متوقعة لدى البعض، وغير متوقعة لدى كثيرين، رفعت الولايات المتحدة غطاءها عن الأكراد، فأضاءت «الضوء الأصفر» للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإطلاق حملة عسكرية ضخمة، تحت مسمى «عملية غصن الزيتون»، للسيطرة على عفرين، الجيب الكردي الاستراتيجي في الشمال السوري.
بطبيعة الحال، ثمة أسباب عدّة دفعت أردوغان نحو تلك الاندفاعة العسكرية، وإن كانت بمعظمها تتمحور حول هدف واحد، ومعلن بشكل لا لبس فيه، وهو «حماية الأمن القومي التركي» من خلال إجهاض أي مسعىً آني أو مستقبلي لقيام دولة/دويلة/كانتون كردي على حدوده الجنوبية مع سوريا.
لعلّ المثير للانتباه في تلك الاندفاعة الأردوغانية، أنها لم تتسم هذه المرّة بالمغامرة أو المقامرة المعروفة عنه، منذ بدايات تمظهر أجنداته التوسعية في مرحلة «الربيع العربي».
بطبيعة الحال، ما كان لأردوغان أن يخرق ما كان يمثّل، في الأمس القريب، الخط الأحمر، دونما الحصول على موافقة أو على الأقل عدم اعتراض من القوتين الدوليتين الأكثر فعالية في الصراع السوري، وهما الولايات المتحدة وروسيا.
على هذا الأساس، كان واضحاً «الضوء الأصفر» الذي أضاءه الرئيس الأميركي دونالد ترامب على مفترق الطرق المؤدي إلى أهم الجيوب الكردية في شمال سوريا، فالمواقف الصادرة عن الأخير تكاد تكتفي بمطالبات كلامية للرئيس التركي بوقف العملية العسكرية في عفرين، من دون أن يقترن ذلك بأية آليات لكبح الاندفاعة الأردوغانية.
ويبدو واضحاً أن الموقف الأميركي ينطلق من عامل أساسي، يتمثل في عدم رغبة دونالد ترامب في قطع الشعرة الحساسة التي ما زالت تربط بين الولايات المتحدة وتركيا –العضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي (ناتو)– بعد التعارض لا بل التناقض في المواقف العامة إزاء قضايا إقليمية متعددة، لا تقف عن حد الأزمة السورية.
ومن هذا المنطلق، فإنّ رفع الغطاء الأميركي عن الأكراد، والسماح لأردوغان في شن عملية «غصن الزيتون» قد يكون الهدف منه، تجنّب –أو في أسوأ الأحوال تأجيل– الاستدارة الكاملة لتركيا من المعسكر الأطلسي إلى المعسكر الروسي، خصوصاً أن العلاقات بين أنقرة وموسكو شهدت العديد من محطات التقارب، لا سيما بعد الانقلاب العسكري الفاشل على رجب طيب أردوغان، قبل عام ونصف العام، وما حكي حينها عن وجود تواطؤ أميركي في تلك المؤامرة، في مقابل إنقاذ روسي للرئيس التركي، من بوابة الرصد الاستخباراتي لتحرّكات أولئك الضباط الموالين للداعية الإسلامي فتح الله غولين الموجود في الولايات المتحدة.
ولعلّ واشنطن نظرت بعين القلق إلى ذلك اللقاء الذي جمع في نهاية العام المنصرم بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيريه التركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني، في قمة التفاهمات السورية، التي أسماها الكثير من المحللين «يالطا–2»، في إشارة إلى قمة يالطا الشهيرة، التي جمعت الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في المنتجع البحري نفسه في العام 1945، والتي خرجت منها معظم التفاهمات التي رسمت مصير العالم طوال نصف قرن.
ضوء أخضر روسي
وعلى خط موازٍ، لا شك في أن أردوغان حصل هذه المرّة على «ضوء أخضر» روسي للمضي قدماً في الاندفاعة العسكرية ضد الأكراد، وذلك بناءً على تفاهمات غير معلنة جرى الاتفاق عليها في قمة يالطا نفسها، والتي كشفت ملامحها بعض وسائل الإعلام الروسية سريعاً، واضعة إياها ضمن معادلة «عفرين مقابل إدلب».
على هذا الأساس، لم تكن مصادفة، على الإطلاق، أن تبدأ العملية العسكرية في عفرين، بالتزامن مع التقدّم الميداني الكبير الذي أحرزه الجيش السوري، مدعوماً من روسيا، في محافظة إدلب السورية.
ويشي هذا التحوّل –أو تلك المقايضة– بتغيّرات دراماتيكية في الاستراتيجية التركية في الأزمة السورية، فإدلب بالذات تحوّلت، خلال الأعوام الماضية، استثماراً تركياً رئيسياً في المعادلة السورية، فالقادمون من تلك المحافظة، التي كانت «جبهة النصرة» (التي يفترض أنها جهة حليفة لتركيا)، يروون الكثير عن الحضور التركي –الاجتماعي والسياسي والعسكري والديني– في إدلب، ما ولّد قناعة راسخة بأنّ تلك المحافظة الخارجة عن سيطرة النظام السوري، ستكون في أية تسوية مستقبلية نقطة الارتكاز للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لكي يحصل في السلم ما لم يحصل عليه في الحرب.
انطلاقاً من ذلك، فإنّ المقايضة المحتملة بين عفرين وإدلب –إذا ما صحّت التسريبات الروسية– تعني أن رجب طيب أردوغان حصر أهدافه السورية بنقطة وحيدة، وهي منع قيام الكيان الكردي المستقل أو شبه المستقل في الشمال السوري، وهو هدف ليس بالقليل، إذا ما تمّ النظر إلى الهاجس الذي يتهدد الأمن القومي التركي، بوجود كيان كردي شبه مستقل في العراق، وتنامي مقدّرات نشوء كيان كردي مشابه في سوريا، ووجود ملايين الأكراد في تركيا، ممن يشكلون صداعاً مزمناً في رأس الرئيس التركي.
زيت على النار
وأمّا بالنسبة إلى روسيا، فالأمر في غاية البساطة، ذلك أن كل المساعي التي جرت خلال الفترة الماضية، للتقارب مع الأكراد، اصطدمت بطموحات الاستقلال الذاتي، تحت مسمّى «الإدارة الذاتية» في الشمال السوري، وقد أتت جملة تحرّكات ومواقف كردية لتصبّ الزيت على نار الشكوك الروسية، بدءاً بما جرى قبل أشهر، حين رصدت وزارة الدفاع الروسية ممراً آمناً فتحته قوات الحماية الكردية لإرهابيي «داعش» لتأمين خروجهم من الرقة باتجاه دير الزور، وصولاً إلى الانخراط الكردي المباشر في المخططات الأميركية المستجدة بشأن سوريا، والمتمثلة في تشكيل «جيش جديد» في سوريا، قوامه 30 ألف عنصر بمشاركة «قوات سوريا الديمقراطية» تحت مسمّى «حماية الحدود».
حجر.. و٣ أهداف
علاوة على ما سبق فإنّ «الضوء الأخضر» الروسي للعملية التركية في عفرين، يمثّل بالنسبة إلى الروس حجراً مهماً يمكن من خلاله إصابة ثلاثة أهداف مجتمعة:
– الأول، هو ضمان الدور الإيجابي لتركيا في العملية السياسية قبل أيام من انعقاد مؤتمر سوتشي.
– الثاني قطع الطريق أمام التشويش الأميركي على المؤتمر المذكور وتجنّب أية عرقلة ميدانية للتقدّم الجاري في إدلب (على غرار ما حدث في هجومي الهاون والطائرات المسيرة على قاعدتي حميميم وطرطوس).
– الثالث كبح الاندفاعة الاستقلالية للأكراد، من خلال إسقاط مقوّمات الكيان المستقل، وهو هدف يتماشى مع الخطوط العريضة للحل السوري وفق الرؤية الروسية، والقاضي بتشكيل نظام سياسي في سوريا، بات يختصر بعبارة «أقل من فدرالية… أكثر من لا مركزية موسّعة».
انطلاقاً من كل ما سبق، فإنّ عفرين قد تمثّل اليوم مفترق طرق أمام الأزمة السورية: فإمّا أن تمضي العملية التركية وفق حدود زمنية تتماشى مع إيقاع تسوية أستانا–سوتشي… وإما أن تطول أكثر من اللازم، نتيجة للمقاومة الكردية المحتملة، لتتعقد بذلك الامور مجدداً، ما يعني بطبيعة الحال أن فرص التفجير قد تصبح أكثر احتمالية خصوصاً إذا ما اقترنت المقاومة الكردية تلك، بغطاء متجدد من قبل الولايات المتحدة، سواء من خلال الدعم العسكري المباشر أو من خلال تحريك ملفات قديمة–جديدة في وجه النظام السوري، وخلفه بطبيعة الحال روسيا، على غرار المقترح الأخير الذي تقدّمت به فرنسا تحت عنوان «المبادرة الدولية لمنع مستخدمي السلاح الكيميائي من الإفلات من العقاب».
نُذر مواجهة مسلحة بين تركيا وأميركا في سوريا
قال نائب رئيس وزراء تركيا بكر بوزداغ، الخميس الماضي، إنه يتعين على الولايات المتحدة أن «تكف عن دعم الإرهابيين» إذا أرادت تجنب مواجهة محتملة مع تركيا في سوريا.
وأضاف بوزداغ، في مقابلة تلفزيونية: «الذين يساندون المنظمة الإرهابية سيصبحون هدفاً في هذه المعركة»، في إشارة إلى الدعم الأميركي لمقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية الذين تحاربهم تركيا في منطقة عفرين بشمال سوريا.
ونقلت «رويترز» عن نائب رئيس وزراء تركيا قوله: «الولايات المتحدة بحاجة لمراجعة جنودها وعناصرها الذين يدعمون الإرهابيين على الأرض بطريقة ما لتجنب مواجهة مع تركيا».
وتواصل أنقرة عمليتها العسكرية ضد مقاتلين أكراد في عفرين، حيث تقاتل مسلحي وحدات حماية الشعب الكردية الذين تعتبرهم أنقرة حلفاء لانفصاليين متمردين في جنوب شرق تركيا منذ عقود، بينما تعدهم الولايات المتحدة حلفاء لها ودعمتهم في الحرب على تنظيم داعش.
وهددت تركيا بتوسيع عملياتها ضد وحدات حماية الشعب الكردية في مناطق حدودية أخرى شرق الفرات، في خطوة يمكن أن تضع القوات التركية في مواجهة مباشرة مع القوات الأميركية وحليفتها السورية الكردية.
وليس للقوات الأميركية تواجد عسكري قرب أو في عفرين، لكن هناك عدة آلاف من القوات متمركزة أقصى الشرق في بلدة منبج.
وفي المقابل قال مستشار الأمن الداخلي الأميركي توم بوسيرت، الخميس الماضي، إن الولايات المتحدة تفضل أن تخرج القوات التركية من النزاع في بلدة عفرين، وناشد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالتركيز على «الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى» في سوريا.
وأضاف بوسيرت متحدثاً في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس السويسرية «يجب أن تضع تركيا في اعتبارها احتمالية التصعيد أثناء تحركها نحو سوريا وعفرين».
وكانت واشنطن أعربت عن قلقها من العملية العسكرية التركية، لكن تصريحات بوسيرت هي الدعوة الأكثر مباشرة لكي تنسحب تركيا.
وفي سياق آخر، قالت المتحدثة باسم البنتاغون دانا وايت إنّ واشنطن ستستمر في مشاوراتها مع الأتراك، داعية إياهم إلى خفض التصعيد في شمال غرب سوريا، في حين رفض مدير هيئة الأركان الأميركية المشتركة كينيث ماكينزي التعليق على الأنباء بتقييد تركيا للحركة المعتادة في قاعدة انجرليك نظراً لعملية عفرين العسكرية.
وتعتمد الولايات المتحدة على وحدات حماية الشعب الكردية المنضوية في «قوات سوريا الديمقراطية» التي تسيطر، بدعم من الولايات المتحدة، الآن على 25 بالمئة من الأراضي السورية بعد دحر داعش عن مناطق شاسعة في البلاد.
وتأتي تصريحات المسؤولين الأميركيين والأتراك عقب محادثة هاتفية، الأربعاء الماضي، بين أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترامب، مع مؤشرات على تدهور العلاقات.
استغاثة بالدولة السورية
من جانبها، دعت الوحدات الكردية في عفرين، الخميس الماضي، الدولة السورية إلى حماية حدود البلاد من هجمات الجيش التركي، وأكدت استمرارها في الدفاع عن المنطقة أمام العملية التي أطلقتها أنقرة منذ أيام.
وأكدت الإدارة الذاتية في مقاطعة عفرين، في بيان، أن عفرين جزء لا يتجزأ من سوريا، وأوردت أن قواتها تقوم بما وصفته بـ«الواجب الوطني» منذ 6 سنوات في الحماية من هجمات تنظيم داعش الإرهابي وجماعات إرهابية أخرى.
وقال بيان الإدارة الذاتية «في الوقت الذي نؤكد بأننا سنستمر بالدفاع عن منطقة عفرين أمام الهجمات الخارجية المسعورة، وسنتصدى لمحاولات الاحتلال التركي لعفرين، ندعو الدولة السورية للقيام بواجباتها السيادية تجاه عفرين وحماية حدودها مع تركيا من هجمات المحتل التركي».
واعتبرت الوحدات الكردية، ما قامت به مساهمة في حماية وحدة الأراضي السورية، وأضافت أن أنقرة تسعى إلى اقتطاع المزيد من الأراضي السورية، عبر احتلال عفرين.
Leave a Reply